لقد أجمع رواد الفكر والعلم والثقافة وصناع القرار وعامة الناس وخاصتهم وكل من عرف الدكتور راشد المبارك في مشارق الأرض ومغاربها على أنه قد تميز - رحمه الله - بشخصية فكرية إنسانية أخلاقية حضارية راقية طاهرة متواضعة لا نظير لها. فقد أكسبته هذه الإنسانية في الحقيقة فلسفة علمية راسخة جاذبة مستقطبة متفردة عن الحياة والكون، تآلف فيها نظره الفلسفي الثاقب بمنظوره الفكري الإنساني الحكيم. ولا أقول ذلك عنه مجاملة أو عن انفعال وجداني عاطفي، وإنما هو عن واقع عايشته وشرفت به من خلال صداقتي المتينة له, وملازمتي لندوته الشهيرة المرموقة (ندوة الأحد) نحو ثلاثين عاماً, وإدارتي لها أسبوعياً لنحو تسع سنوات مضت, ولقاءاتي التي لا يحصرها سجل به, وتتلمذي كغيري من رواد ندوته في جامعة ندوته المفتوحة التي ازدانت بحواراته وسجالاته الفريدة وألق حضوره، إضافة إلى جهده العلمي والفكري والفلسفي المرموق الذي حفلت به، والذي كان وسيظل معين ثراء لي ولكل قارئ له. ولهذا فإنه من دواعي العرفان له بالفضل ووفاء له على ما قدم لأمته ويشرفني أن أضع بين أيديكم هذا المقال الذي خصصته لإلقاء بعض الأضواء على جوانب من فكر الدكتور راشد المبارك وفلسفته العلمية التي ثبت في الأرض أصلها، وتسامت فروعها في السماء منظومة شامخة سامقة ومنظوراً ثاقباً، ارتكزت منطلقاته الأساس على الأبعاد الآتية:
1- البُعد الأول: فلسفة فكرية علمية عقلانية أخلاقية مثالية إصلاحية نخبوية واقعية، تحكم العقل باعتدال في تحليله لفرص النظر والاستقراء والاستدلال والاستنباط والاسترداد والمجانسة والقرائن الجائزة, وتدرك حدود العقل المحض وقصور تجلياته وفرص وقوعه في الخطأ والزلل وإملاءات الأهواء والنزوات وحتمياتها. ولا شك أن د. المبارك - طيب الله ثراه - قد رسم لنفسه حسب هذا البُعد مساراً فكرياً ومنظوراً فلسفياً متفرداً، يمقت بمقتضاه التقليد الأعمى غير الواعي، ويستهجن عدم منح العقل فرصته لاستشكال الأحداث. كما صاغ - رحمه الله - منظوره الإنساني الفكري الناضج هذا على مبدأ أخلاقي فلسفي عظيم، ألا وهو بغضه على الإطلاق للعنصرية المقيتة والكراهية القاتلة المدمرة للشعوب والأمم والمنجز الحضاري البشري. فقد كره - رحمه الله - بغضاً شديداً التعصب لعرق أو لمذهب أو لتيار أو لطائفة أو لملة أو لنحلة ونحو ذلك، جاعلاً الأصل لديه في التعامل سواسية البشر وإنسانية الإنسان. كما كره - طيب الله ثراه - الظلم وانتهاك حقوق الإنسان، ومقت بصوت تردد صداه في الأصقاع الحجر على الرأي الآخر أو مصادرته وإقصاءه وفرض الفكر المخالف بالإرهاب وأسواط الجلادين. ولا شك أن كتابه - طيب الله ثراه - «فلسفة الكراهية» يُعد سفراً، تجلى فيه عمق وعي د. راشد - رحمه الله - وشفافية فكره ونضج فلسفته. فقد نجح - رحمه الله - في كتابه هذا من وصل الآخر المؤتلف القريب بالمختلف الآخر البعيد عبر تغذية منطقية راجعة قلَّ نظيرها، وندر تناسخ مثلها وتوالد مثيلاتها، قطعت الطريق على مروجي الكراهية من إعادة إحياء الخطاب التاريخي الاستعدائي المبني على اختلاف التضاد المدمر لذات الكاره ولأمته على حد سواء، وأسست لروح التسامح ونبذ التعصب وكراهية الآخر. ولقد وصل د. راشد - غفر الله له - كتاب «فلسفة الكراهية» بكتابه الموسوم «التطرف خبز عالمي»، الذي لخص فيه رؤيته لقضية التطرف وتتبع أسبابه وآثاره المدمرة الخطيرة منزهاً وصم دين ما أو تيار أو مذهب بالتطرف نتيجة لقيام شرذمة من ذاك الدين أو ذلك التيار أو المذهب باتخاذ التطرف خبزاً عالمياً لها. من جانب آخر، فإن فلسفة د. راشد المبارك - رحمه الله - عن الحياة والكون وفكره العلمي الإصلاحي النخبوي المثالي الواقعي المعتدل قد قاده لمنح العقل منزلة سامقة بهية، كان يقدمها - رحمه الله - في ظروف عديدة على الحس والتجريب مقترباً بذلك من امشتغلين بعلوم الدين وبعلوم الإنسان وآدابها التي يحترمها ويجلها كما صرح بذلك في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من مؤلف ومقال. كما كان لهذه الفلسفة جانب منظوري فكري راسخ، يعول فيه د. المبارك - طيب الله ثراه - على الحدس والخيال في الحصول على المعرفة القائمة على النظر، فيقول على سبيل المثال لا الحصر: «إن أسرار المادة تقع داخل أسوار لا يخترقها سوى أشعة الفكر، ويتعذر اجتيازها إلا بوثبات الخيال». فلذلك تجده يتألم - رحمه الله - من أنماط التعسف البشري والتعامل المتوحش مع تلك الأسرار وطبيعة أسوارها وطرق اختراقها وسبر أغوار كينوناتها. إن فلسفة د. راشد المبارك - رحمه الله - وفكره العلمي الممنهج قد منحه القدرة الموضوعية الفائقة الموهوبة للفصل بين جموح النظرية وألق المنظور وجنوح النظر بنماذجه المختلفة موظفاً عمق إيمانه بربه وصلته المتينة بالكتاب والسنة وفهمه الناضج لهما ولحدود الأطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تعيشها أمته وتركن إليها، ومستجدات العصر وتغير ظروف الحال في المكان والزمان، وتأثيرها على تلك الحدود. وأستطيع أن أجزم هنا أن فلسفة د. راشد المبارك - رحمه الله - قد ولدت وترعرعت في أكناف فكر إنسانيته الفذة ورهافة حسه ورفيع ذائقته وقلبه الذي ينبض رأفة وحناناً وتعاطفاً وحباً واحتراماً للإنسان. ونتيجة لذلك اتحد منظور د. راشد الفكري مع منظوره الإنساني ومع مثله ومبادئه العليا التي أفرزت فلسفته العلمية الأخلاقية العقلانية الإصلاحية النخبوية الواقعية ووجهتها الوجهة التي جعلت منه عالماً قديراً ومفكراً جليلاً وفيلسوفاً إنسانياً متفرداً وصاحب منطق متعمق معرفياً. كما كان لإنسانيته دور في توجيه منجزه العلمي والفكري والفلسفي والمنطقي؛ فهو لم يحرم تعبيره عن وجدانه - رحمه الله - من تجربته الإنسانية الفكرية والفلسفية التي أسقطها على شعره بعد أن ألبسها ثوب الحكمة والروية لتصبح رمزاً ومثلاً يستشهد به على أحداث الحياة المثلى من ضمير الإنسان اليقظ المحترق المجروح الغارق في حرقة دمع بلا سفر وشوق يحيا بلا أمل، فيقول بصوت مدوٍّ يرد له الدمع في مقلتيه، ويبرئ جرح أمته الخفي القاتل:
وأحرق الدمع ما يبقى بلا سفر
وأقتل الجرح ما يخفى ويستتر
وأنبل الشوق ما يحيا بلا أمل
ينث طلا على الأكباد تنفطر
إضافة إلى ذلك فقد قادته إنسانيته الفذة التي بلورت فكره الراسخ وفلسفته السامقة إلى القرب من الناس وتواضعه معهم، وبخاصة الفقراء والمساكين والبؤساء والمسحوقون والمنكوبون الذين كان يتألم - رحمه الله - لآلامهم، ويتوجع من أجلهم لحد الأرق الذي يقض مضجعه، ويبرحه ألماً. فقد كان - رحمه الله - لا يرتاح له بال ولا يغمض له جفن إلا بعد رفع الظلم والبؤس وإزاحة كابوس الفقر والجوع والمرض وتفريج الكرب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ولعلي أجد لنفسي العذر كل العذر هنا أن أصف فلسفته الإنسانية في هذا المقام بما وصف هو به نفسه في ديوانه «رسالة إلى ولادة» صادحاً بصوت الأرض الإنساني المدوي بجرأته المعهودة وإنسانيته البريئة الطاهرة وصدره الحاني الذي سكن فيه قلبه الكبير ومنطقه الفريد الشجي المؤثر معلناً على رؤوس الأشهاد:
«أنا نشيج الأسى في صدر من ظلموا
أنا أنين الشجى في قلب من نكبوا»
أليس إخوتي الأفاضل في هذا القول من شعره عمق في العبارة وتجلية في اللفظ وكشف لغطاء كينوني يعكس عمق الأبعاد الفكرية والفلسفية الإصلاحية النخبوية التي تفرد بها د. راشد المبارك - طيب الله ثراه - ويجلي تلك الإنسانية المتأصلة فيه وحرقتها على مصائب من ظُلم ونكب أو سحق.
2- البُعد الثاني: فلسفة علمية إبداعية خلاقة، تأسست على نقل العلم من مرحلة المعلومات إلى مرحلة المفاهيم. فالعلم عند د. راشد المبارك - طيب الله ثراه - أسلوب حياة ونمط تفكير وطريقة فكر ووسيلة استنباط وقياس واستدلال واسترداد؛ لهذا نجده - رحمه الله - ينحو في فلسفته منحى التنظيريين الذين شغفوا بالبحث في خواص المادة والعلاقة بين وحداتها اعتماداً على العقل والحدس والتأمل ثم الحس والتجربة؛ ولذلك أدرك د. راشد المبارك وأعلن في أكثر من مناسبة خاصة وعامة أنه قد حان الوقت أن تتغير بنى التعليم الفكرية من أنماطها التعليمية غير المفاهيمية وأساليبها التلقينية إلى فكر تعلمي مفاهيمي تحولي، يشارك فيه الطالب مع معلمه في صناعة فكره الذي يقرر له نمط شخصيته المستقبلية؛ ليجعل منه لبنة حية فاعلة، يعول عليها في النهضة التنموية والحضارية والثقافية والفكرية الوطنية التي ينبغي أن تواكب - كما ينادي بذلك دائماً - المشهد العالمي الوثاب المتطور على أقل تقدير، أو تتخطاه. ولا بد من الإشارة هنا إلى سمة فكرية مدهشة، جمع فيها د. المبارك - رحمه الله - المقاربة بالمفارقة والمؤتلف بالمختلف، فنادى عالياً بشموخ الفلسفة، وتهافت بعض فلاسفتها في أكثر من جهة في الأرض. فقد أعلى - طيب الله ثراه - في كتابه «شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة» من شأن الفلسفة، وأكد شموخها مبرهناً بكل دليل حازه بين يديه على تهافت بعض المشتغلين بالفلسفة نتيجة لتبنيهم - حسب رأيه - أمراً يتناقض مع شموخ الفلسفة التي يشتغلون بها، وهو تلك النزعة التقريرية الوثوقية التي تكاد تكون ملازمة لكل الفلاسفة وفي كل العصور، على الرغم من كونها لا تتعدى - في رأيه رحمه الله - خواطر وانطباعات لا ترتقي إلى المستوى الوثوقي الذي يتبنونه. ومن أمثال أولئك الفلاسفة الوثوقيين التقريريين، الذين أشار إليهم د. راشد المبارك - غفر الله له - في أكثر من مناسبة، أفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وكانت وشوبنهاور وغيرهم، ممن كتب عنهم وتحدث بجدارة العالم وكفاءة الخبير. كما ندد - غفر الله له وطيب ثراه - بالتمذهب الفلسفي الذي جنح بالفلسفة - حسبما ورد في كتابه «شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة» - عن حياديتها وموضوعيتها نتيجة للمبالغة في البعد الوثوقي الآنف ذكره؛ ما كان سبباً - حسب رأيه رحمه الله - في تضليل مسار الفكر، وإضفاء دوجماتية عليه، زورت الوقائع، وحولت العقول البشرية إلى شهداء زوروإلى حالات قد يقرر العقل فيها قضية ما، ثم يأتي بما يناقضها. ولقد كان أكثر ما يثير دهشة د. راشد - طيب الله ثراه - أمرين: الأول: أن ما كشفه الزمن من أخطاء السلف في تقريراتهم لم يمنع الخلف من الوقوع في الخطأ نفسه من التقرير والوثوق. وثاني الأمرين هو أن وجود آراء آنية معارضة تمام المعارضة لما يصله واحد منهم لم يحمل الآخر على مراجعة خزانته لمعرفة ما فيه من زائف أو أصيل. ويرى - رحمه الله - أن السبب وراء ذلك هو اختيار معظم الفلاسفة لمنازل «الواصلين» التي كان من الأليق بهم ألا يستبدلوا بمنزلة «السالكين» منزلة أخرى. فليس أضر عند د. المبارك - رحمه الله - على ملكة الإدراك من منازل «الوصول»؛ لأنها تعني عنده - طيب الله ثراه - أن يضع العقل عصا تسايره، وأن يخمد فيه الوهج الباعث على الابتكار والإبداع. ولهذا يعتقد - غفر الله له - أن الله جعل الإيمان بالغيب، أظهر صفات المؤمنين, أستاراً لن ترفع, وهذا ما يُبقي العقل مشغولاً بوظيفته، لا يكف عن طرق «السالكين». ولو كُشفت الحجب لانقطع المدد الباعث على الحركة والقلق الباعث على الكشف والإبداع. ولا أنسى أن أنوه هنا بمواقفه الشجاعة في النداء في أكثر من مناسبة خاصة وعامة بوصل العلم بالفلسفة، وبخاصة ما يتعلق منها بنظرية المعرفة. فالفلسفة عند د. راشد - طيب الله ثراه - مدرك عقلي مجرد سام في هدفه، شريف في غايته، مفارق للمشتغلين به أو المقبلين عليه. ويرى - رحمه الله - أن الموقف المتشدد ضد الفلسفة ووصل العلم بها هو في الغالب نتاج الجهل بغايتها وفحواها من ناحية، وتباعد بعض المشتغلين بها عن التيار العام الذي يسلكه عامة الناس ووقوعهم في بعض الأخطاء التي ولدت لدى العامة مواقف معادية لها ونافرة منها من ناحية أخرى. ومع كل المواقف المتشددة تجاه الفلسفة والنفور منها ومحاربة من يشتغل بها فقد وضع أبو الوليد ابن رشد، الذي أُعجب به د. راشد وبفلسفته أيما إعجاب، مختصره الفلسفي الشهير «فصل المقال». كما أعجب د. راشد - رحمه الله - بابن تيمية الذي كان يحترم رؤاه وأطروحاته الفلسفية في مجادلة المخالفين ومحاورتهم، مشيراً في هذا الصدد إلى مطولته الموسومة «درء التعارض بين العقل والنقل» التي تعد في رأي د. راشد وساماً على صدر الأمة الإسلامية، قلده إياها ابن تيمية الذي عُرف بورعه وقربه إلى الحق وقوة التصاقه بالتقى.
* أستاذ الجيوموفولوجيا والأساليب الكمية في الجغرافيا وعضو المجلس الاستشاري العالمي الأعلى بجامعة الملك سعود - المستشار بمعهد الأمير سلطان لدراسات البيئة والمياه والصحراء
- أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير