نتابع حوار بيل مويرز من خدمة البث العام الأمريكية (PBS) مع بيل غيتس:
مويرز: لقد كان من الواضح أنك ماهر في صنع المال. ولكن هل شككت في مهارتك في إنفاقه؟
غيتس: في الواقع، إنه أمر مربك فعلاً في خلال الفترة نفسها من حياتك أن تجلس في اجتماع في «مايكرو سوفت» لتحاول كسب المال، وبعد ذلك تذهب إلى اجتماع آخر في «المؤسسة الخيرية» لتبحث عن طريق للتبرع بهذا المال! أقصد أن هذا يقضي -جزئياً- على قدرتك لكسب المال؟ كنت أتساءل دائما: هل أنا متشوش ومتناقض -بطريقة ما- بين ما أحاول أن أفعله في عملي التجاري وعملي الخيري؟
مويرز: لكنه تشوش وتناقض مثير!! بالفعل تشوش لطيف للغاية.
غيتس: ولذلك، لم أكن أريد أن أخلط هذين الشيئين معاً. الحدث المهم الأكبر بالنسبة إلي كان تقريرا بعنوان: (تقرير التنمية العالمي لعام 1993)؛ حيث تحدث عن هذه الأمراض. وأتذكر رؤية المقالة الذي كشف أن فيروس (الروتا) يصيب أكثر من نصف مليون طفل سنوياً. وقلت لنفسي: يا للهول!! غير معقول!!
وكما تعرف، فإن الصحف تخبرنا دائماً كلما تحطمت طائرة ومات 100 شخص ولكن عندما يمكن أن يقتل هذا المرض نصف مليون شخص في السنة؟! لم أقرأ مقالة عن هذا الأمر حتى الآن. ولم تكن تلك حتى مقالة كاملة. كان مجرد رسم بياني فحسب عن الـ12 مرضاً التي تقتل، وهي في معظمها لم أسمع عنها. وهكذا فكرت، إنه أمر غريب. لماذا لا يتم تغطيتها؟ وكما تعلم، فإن هناك أماً وأباً خلف كل واحدة من هذه الوفيات التي تتعلق بتلك المأساة. هكذا إذاً أغراني الموضوع بالمشاركة قليلاً.
وكان هناك حفلة عشاء بعد أن تبرعنا بمنحتنا الأولى في مجال التطعيم، وأعتقد أنها كانت بـ125 مليون دولار. وجاء جميع هؤلاء الأطباء، وكانوا يظنون: (حسناً، هذا هو عشاء من المفترض أن نقول فيه شكراً لك مستر غيتس، شكراً جزيلاً)، ويحاولون عدم استخدام الشوكة والسكين أو شيئا ما بطريقة مخطئة!
وهكذا، كانوا هناك، وكان عشاءً رائعاً. ولكن بعد حوالي 15 دقيقة، قلت لهم: (نعم.. حسناً، لقد شكرتموني بما فيه الكفاية. ولكن ما الذي سوف تفعلونه لو كان لديكم المزيد من المال؟). وبدا أنهم يهمسون بمثل: (حقاً؟ هل يعني فعلاً ذلك؟ هل هو جاد؟)
قلت: (نعم، ماذا لو كان لديكم عشرة أضعاف هذا المبلغ من المال؟ ماذا ستفعلون به؟). ومن ثم تكلم الرجل الذي عمل طوال حياته في التهاب الكبد الفيروسي (ب)، وتحدث الرجل الذي يعمل في الإيدز، وتكلم الرجل الذي يعمل في الملاريا.
وهكذا بدأ هذا الحديث يفتح الباب للقول إنه نوع من قصص (الأخبار السيئة)، حيث إن الحكومات لا تنفق المال بصورة كافية على الصحة العامة والوقاية من الأمراض، وإنهم يعاملون حياة الإنسان كأنها تستحق بضع مئات من الدولارات فقط لكل شخص في العالم بصورة عامة. بينما المطلوب يعادل ما يقترب من 1000 ضعف في العالم الغني مقابل بقية العالم.
مويرز: أوسكار وايلد قال ذات مرة: (إنها علامة للرجل المتعلم بحق...). وأنا متأكد أنه لو كان موجوداً اليوم سيقول: والمرأة أيضاً- (إنها علامة للرجل المتعلم بحق أن يتأثر كثيرا بالإحصاءات). ما هي القدرة التي تمكن شخصا ما من تحويل حقيقة أو رقما على صفحة إلى إنسان يقع في مكان بعيد عنه؟
غيتس: أعتقد أن هناك صعوبة عامة في النظر إلى رقم ومن ثم توقع أن يكون له الأثر نفسه مثل الاجتماع بشخص. أقصد إذا قلنا الآن إن هناك شخصاً ما في الغرفة المجاورة يصارع الموت، ولنذهب جميعاً لإنقاذ حياته. الجميع سوف يقفزون على الفور ويذهبون لنجدته. عندما شاهدت ابنتي -ذات السبع سنوات- شريط فيديو يبين طفلاً يعاني من صعوبة المشي بسبب شلل الأطفال، كان رد فعلها: (من هو هذا الطفل؟ أين يعيش؟ دعنا نذهب ونساعده. دعنا نذهب ونقابله. ماذا لو أصيب بشلل الأطفال في الساق الأخرى؟). لقد تأثرتْ ابنتي فوراً بالإنسان الظاهر على الشاشة.
فمن الأسهل كثيرا التأثر بقصة شخص واحد أو خمسة أشخاص. إنها كذلك -لأنني أفهم قليلاً في الحساب- فأنا أعرف أنه عندما يكون هناك ثلاثة ملايين طفل يموتون سنوياً بسبب أمور يمكن الوقاية منها تماماً مع التكنولوجيا التي لدينا اليوم. عندها أحاول مضاعفة مشاعري إزاء هذا الوضع بمقدار ثلاثة ملايين ضعف. إنها مسألة صعبة. ولكن على الأقل أنت تعرف أنها فائقة الأهمية.
مويرز: ماذا تمثل لك حقيقة أن نصف الأشخاص الذين يبلغون 15 سنة من العمر في جنوب أفريقيا وزمبابوي، قد يفقدون حياتهم بسبب مرض الإيدز؟ ماذا يمثل لك أن 11 مليون طفل تقريباً يموتون سنوياً من أمراض يمكن الوقاية منها؟ ماذا يمثل لك أن 4 ملايين طفل رضيع يموتون في الشهر الأول ويكون 98 في المئة منهم من البلدان الفقيرة؟ ماذا تقول لك هذه الإحصاءات عن العالم؟
فشل للرأسمالية... الرأسمالية خذلتنا حقاً.
غيتس: إنه في الواقع فشل للرأسمالية. الرأسمالية شيء رائع لأنها تحفز الناس، وتكون سبباً في كثير من الاختراعات الرائعة. ولكن في هذا المجال، بخصوص انتشار الأمراض في العالم أجمع، الرأسمالية خذلتنا حقاً!!
مويرز: ولكن الأسواق من المفترض أن توصل السلع والخدمات إلى الناس!
غيتس: وعندما يكون لدى الناس المال، فهي تفعل! ولذلك، فإن مؤسستنا الخيرية لا تشمل الذين يعانون من الأمراض في العالم الغني. أقصد أن المرضى ينبغي الاهتمام بهم في أي مكان، ولكن الحكومات تعمل في العالم الغني. وبين البحوث الأساسية التي تقوم بها الحكومة هنا، ومن خلال المعهد الوطني للصحة وشركات التقنية الحيوية وشركات الأدوية، ستحدث أشياء لا تصدق مع السرطان وأمراض القلب خلال الـ 20 أو 30 عاماً المقبلة. لأن تلك هي القضايا التي تعمل فيها الرأسمالية.
مويرز: ثمة ربح في هذه القضايا. هناك ربح كبير!
غيتس: تماماً. ما لدينا هنا ليس فقط عدم معاناة أصحاب المال من المرض، بل إنهم لا يرون الناس الذين يعانون من المرض. ولو أخذنا العالم وقمنا بمجرد إعادة تشكيل كل حي ليكون مخلوطاً عشوائياً، فإن هذه المشكلة يمكن حلها. لأنك ستنظر من نافذتك وتقول: أوه، هناك امرأة قربي لديها طفل يصارع الموت. هيا لنذهب ونساعدها. هذه المشكلة، أي عدم رؤية المرضى، سببها -جزئياً- أننا لا نقرأ عنها، ولذلك لا تراها. إنه الصمت الذي يسمح لهذا التجاهل أن يحدث.
مويرز: هل كان هناك لحظة (آها!؟) هل كانت هناك لحظة (وجدتها ) عندما أدركت ما قلته للتو، وقلت: (هذا هو المجال الذي سنصرف فيه ملياراتنا؟)
غيتس: أنا أعرف أنه عندما رأيت ذلك الرسم في (تقرير التنمية العالمي)، قلت: يا للهول غير معقول!!، ولكن إذا كان صحيحاً، فإنه يستحق أن يكون له الأولوية لتبرعنا. وهكذا، أخذت تلك الفقرة إلى المنزل، وقرأتها ميليندا. ثم أعطيتها إلى أبي، وقلت له: هل من الممكن أن تطلب من الناس الذين تعمل معهم أن يخبروني إن كان هذا الأمر صحيحا أم ملفقاً؟ أو إذا كان صحيحاً، أعطوني معلومات أكثر لكي أقرأها.
وكان الأمر بمثابة الصدمة، ولكن بعد ذلك، كان الجواب واضحاً لكون الحكومات لا تفعل شيئاً للمساعدة. وهكذا اعتقدنا أنه ربما يمكن أن نساعد في هذه القضية. وربما ليست مجرد مواردنا فحسب، ولكن ربما يمكننا أن نستقطب بعض الاهتمام والعناية والذكاء للذهاب والنظر إلى هذه المشاكل، ونفكر إذا كنا نملك التكنولوجيا التي يمكن أن توقف البعوض من حمل هذه الأمراض. أو السماح بتوصيل اللقاحات من دون ثلاجة، وقد أنقذنا أرواح الملايين بواسطة تلك الأفكار.
مويرز: لقد تحدثتُ يوم السبت الماضي مع واحد من كبار مسؤولي الصحة العامة في العالم. أحد الرواد في هذا المجال. وقال لي إنك طلبت في إحدى المرات قائمة من الكتب. وقدم لك قائمة الكتب. وقال إنه في المرة التالية التي قابلك فيها بعد شهور قليلة، كنتَ قد قرأت 17 كتاباً منها. أقصد ألا تقرأ شيئاً للمتعة؟
غيتس: كان هناك حوالي ستة أشهر كنت أحمل فيها 10 أعداد تقريباً من (تقرير الأمراض والوفيات الأسبوعي)(*). والناس يرون تلك التقارير على مكتبي في مايكروسوفت ويقولون: ما هذا بحق الجحيم؟ هل تقرأ «تقرير الأمراض والوفيات الأسبوعي»؟ فأقول لهم: نعم، اقرأوا هذا التقرير منذ أوائل الثمانينيات عندما اكتشف الإيدز. إنه تقرير يصلح لهواة جمع الأشياء النادرة. في الواقع، لقد تطلب الأمر الكثير من الكتب المختلفة للتمكن من معرفة مختلف وجهات النظر ومحاولة فهم ما يمكن عمله.
مويرز: قراءة كتاب أو إحصائية أو رسم بياني أشياء مهمة، أما الأهم قراءة وجه إنسان. هل ذهبت إلى الميدان؟
غيتس: نعم، وكانت عملية صعبة. أنا لست جيداً بشكل خاص في هذا الأمر. وربما لن أكون جيداً أبداً. ولكن أن تمشي إلى كل مريض، وتسأله: ما هي مشكلتك؟ وأن تحترم رغبتهم في الخصوصية، إنه أمر عسير. ولكنني أعتقد أن الوصول إلى المرضى مهم جداً. إذا خرج الناس المهتمون هكذا، فإن هذه المشاكل سوف يتم معالجتها.
مويرز: لقد كان هناك رحلة قمتَ بها إلى مدينة سويتو(**) في جمهورية جنوب أفريقيا وكانت حاسمة في تفكيرك. أخبرني عنها.
غيتس: حسناً، لقد أحضرنا كمبيوترا، وأخذناه إلى حي في مركز سويتو. لم تكن هناك كهرباء في ذلك الحي. لكنهم رتبوا الأمر بأن مدوا سلكاً طوله 200 متر تقريباً، ليصل حيث يوجد مولد كهربائي يعمل بالديزل. واشتغل الكمبيوتر. وعندما أتت الصحافة، كان الكمبيوتر يعمل جيداً.
وكان أمراً مضحكاً! لقد كان واضحاً لي أن القضايا ذات الأولوية بالنسبة إلى الناس الذين يعيشون في ذلك المجتمع على وجه الخصوص كانت متصلة أكثر بالصحة من الحصول على الكمبيوتر. ومن المؤكد أن هناك أهمية لتوفير الكمبيوترات هناك. ولكن عندما ننظر إلى -دعنا نقول- 2 مليار من مجموع 6 مليارات في هذا الكوكب من الذين يعيشون بأقل دخل، فإنك تعرف أنهم يس تحقون فرصة أفضل. وهذه الفرصة لا يمكن إعطاؤها إلا بتحسين الظروف الصحية.
إن المفارقة الصارخة جداً هو أنني كنت قبلها في جوهانسبرغ التي تعتبر نوعاً ما من العالم المتقدم. وكنت أتحدث مع رجال المصارف حول برامج الكمبيوتر الخاصة بهم، وهي (جوهانسبرغ) تقريباً لا تختلف كثيرا عن الولايات المتحدة.
ومن ثم تقود السيارة 8 كيلومترات تقريباً، وتصبح في واحدة من أكثر المناطق التي رأيتها في حياتك فقراً. هناك تجد المنازل المبنية من الصفيح والحرارة التي لا تطاق. إنه شيء صادم أن تذهب من هذه المدينة إلى تلك، وتقارن بينهما على الرغم من قرب المسافة. ثم تفكر: حسناً، كيف يمكن أن يحدث الاختلاف على الرغم من هذه المسافة القصيرة؟
هوامش المترجم:
(*) تقرير الأمراض والوفيات الأسبوعي (MMWR): ملخّص أسبوعي عن الأوبئة والوفيات في الولايات المتحدة. وقد رصد لأول مرة في 5 يونيو 1981، إصابة خمسة رجال بمرض جديد أصبح يعرف فيما بعد بالإيدز.
(**) سويتو: إحدى ضواحي مدينة جوهانسبرغ التي تعتبر أكبر وأهم مدينة في جمهورية جنوب أفريقيا. يسكنها 1.200.000 نسمة تقريباً. وتعتبر من أكثر الأماكن فقراً في الدولة. تأسست في الأساس كمنطقة سكنية للرجال والنساء السود الذين يعملون في منازل ومصانع السكان البيض في جوهانسبرغ أثناء فترة التمييز العنصري.
...يتبع
ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب
Hamad.aleisa@gmail.com