النموذج الثاني: ما العلاقة بين الرؤية والموقف؟ أيهما أسبق الرؤية أم الموقف؟، يقول العلي: «هل الرؤية بناء ذهني، أو تصورات اعتقادية قائمة في الوجدان، تتسع وتضيق حسب اتساع الأفق الذهني، أو ضيقه لهذا الفرد أو ذاك؟ إن هذه المنظومة من التصورات -هل- لا بد أن تتحول إلى سلوك؟ أعتقد أن الإجابة واضحة، ذلك لأن الرؤية لو بقيت مجرد تصورات قابعة في أفقها الوجداني، لتساوى في ذلك كل الأفراد، الشجاع والجبان، والصادق والكاذب، المثقف والجاهل، إنها العودة إلى (الإرجاء). الرؤية إذًا لابد أن تتحول إلى سلوك، والسلوك باختصار: إما أن يكون وليد الرؤية وحدها، أو وليد الموقف وحده، أو وليد المخاض الجدلي بين الرؤية والموقف.
بأسلوب (إما وإما) القديم هذا نطرح المسألة: لنصل إلى السلوك لا يمكن أن يكون الموقف وحده، وإلا أصبح موقفًا آلياً بعيدًا عن التصرف البشري. أما حين يكون وليد الرؤية وحدها، فهو ممكن، ولكنه يكون سلوكًا يعطي ظهره للواقع، ولا يقوم بأهم خطوة إنسانية وهي الاختيار. إذًا، فالسلوك الإيجابي هو ذلك الذي يتولد من المخاض الجدلي بين الرؤية والموقف، وهنا تبرز مسؤولية المثقف، وخطورة دوره الاجتماعي».
ربما أطنبت كثيرًا في تبيان القراءة الاشتباكية للمفاهيم، بسردي لثلاثة نماذج مطوّلة، لكن برأيي، أن هذه النقطة هي أهم ما يميز قراءة العلي للمفاهيم، ولذلك تجشمت لها كل هذا العناء، وقد يبتدر السؤال: لماذا القراءة الاشتباكية الأفقية للمفاهيم أنجع من القراءة الطولية؟ أجيب على ذلك كما رد العلي على أدونيس: أن القراءة الطولية هي قراءة من جهة واحدة، من الأعلى إلى الأسفل، تتعامى عن تأثير الطرف المقابل، أما القراءة الاشتباكية فهي تحفظ دور الطرفين في العملية.
هموم العلي الفكرية:
المثقف، هو ابن مجتمعه، فهو يعكس هموم وتطلعات وأحلام المجتمع، وهكذا أقرأ محمد العلي، بوصفه مثقفًا يحمل همّ مجتمعه؛ فلذا جميع أسئلته، وشغله المعرفي، هي استجابة لمكامن الخلل في المجتمع.
أهم هذه الأسئلة هو سؤال المعرفة العلمية: متى سنتمثّل مفهوم السببية في ثقافتنا؟، سؤال الحداثة، ما هو التقدّم؟ وكيف السبيل إليه؟ سؤال المفهوم، هل فهمنا للواقع يتسم بالصحة؟ كيف نكوّن فهمًا صحيحًا للواقع؟ سؤال التاريخ، هل لدينا وعي بالتاريخ؟ هل نحن داخل التاريخ أم خارجه؟، هذه الأسئلة ليست منفصلة عن بعضها البعض، بل مترابطة، يفتحنا كل سؤال منها على الآخر، فلا يمكن الإجابة عن أحدها دون البقية. تلك الأسئلة، قاربها العلي بأدواته المعرفية في «نمو المفاهيم» وفي غيره من الإصدارات، لكن ليست هنالك إجابة نهائية لمثل تلكم الأسئلة، ففي الفكر، ليس هنالك جواب للإشكالية، فقط هنالك زحزحة للإشكالية، بفتحها على أفق جديدة، ورؤى مبتكرة.
نظرة انطباعية عن الكتاب:
بالنسبة لي، أول مواجهة مع الكتاب كانت في العام الماضي، لم أقرأه بالكامل، لكن وقفت على بعض الأوراق، واجهت الكتاب بنبضات قلب متسارعة، ووقفة مشدوهة، فالكتاب ليس بما يقدم لك من معلومات، بل بما يفتح لك من آفاق جديدة للتفكير والفهم والتفسير، فالكتاب فتح لي طريقًا جديدة في التفكير ببعديه المنهجي والتطبيقي.
كلمة أخيرة:
المفاهيم أساس المشكلة، ولابد من التعامل معها، أما الكتاب، تتلخص أهميته في أمرين: بمنهجه لا بمادته، وبرسالته، لا برؤاه، أما رسالته: لنشتغل على مفاهيمنا!.
أيضًا، لابد لنا من بنا نموذجنا للعقلانية، لتثبيت وجودنا الحضاري، عقلانية لا تتسم فقط بالسببية، فذلك اختزال للكائن، نريد تبني نموذجًا منفتحًا للعقلانية، أي تلك العقلانية المفتوحة على الجمالي والتخييلي، فالجمالي يفتحنا على الكائن، أي على ذواتنا، والتخييلي، يفتحنا على الممكن، أي المستقبل.
محمد سعيد الفرحان - الرياض