1- النقد الثقافي.. أوديب ملكاً
النقد الثقافي هو ثمرة لجهود متميزة من نقاد ما بعد الاستعمار الذين استهدفوا تفكيك المركزية الأوروبية، والنظريات الاستعمارية التقليدية؛ كما هو واضح في كتابات دريدا، وإدوارد سعيد؛ وصولاً إلى فنسنت ليتش وكتابه: النقد الثقافي، جاء الغذامي فاستثمر هذا كله، وأصدر كتابه: النقد الثقافي؛ محدداً آليات التناول النقدي فيه، ومبيِّناً أن مهمته تتحدد في كشف الأنساق المضمَرة في الثقافة، وهو يعني بالنسق: العيوب الثقافية المضمَرة تحت قناع الخطاب، خاصة تلك العيوب المغلّفة بالجماليات الفنية والشعرية التي تخفي القبح النسقي تحتها، وقد انصبّت معظم جهوده في الكتاب على تتبع الأنساق الجمعية - وليس الفردية - المضمَرة في الخطاب اللغوي، وهي الأنساق التي تذكِّرنا - نحن نقاد الأدب التقليديين - بحديث كارل يونغ عن اللاشعور الجمعي ونماذجه العليا المترسِّبة في أعماق البشر.
ليس بعيداً أن تكون موجة النقد الثقافي ردة فعل على المناهج النقدية النصوصية التي بالغت في عزل النص والانغلاق على القِيَم الأدبية فيه، ويبدو أن قدَر النقد الأدبي أن يكون دائماً متأرجحاً بين المناهج النصية المنغلقة ضمن حدود النص، والمناهج السياقية التي تربط النص بسياقه الظرفي العام في دورات تاريخية متعاقبة تؤكد حيوية الفكر النقدي وجدليته بتنقله المستمر من النقيض إلى النقيض، ومن هنا تأتي غرابة هذا الإصرار على محو الصفحات السابقة من الكتاب، والقول: إن النقد الأدبي قد مات على يد ابنه العنيف والنـزِق: النقد الثقافي الذي استعار من والده معظم آليات التحليل، ثم قرر بعد ذلك قتله والتخلص من آثاره، والسؤال: ألا يمكن أن نتجنب إعادة مأساة أوديب مرة أخرى؟ ألا يمكن أن يتعايش الولد بسلام مع والده؟ أليست القبحيات النسقية في النص متجاورة، بل مندمجة مع الجماليات الفنية فيه؟ ألا يحدث كثيراً أن يقودنا تحليل الجماليات إلى اكتشاف القبحيات، والعكس صحيح أيضاً؛ كما هو واقع تحليلات الغذامي نفسه في نقده الثقافي للنصوص؟
هذا يعني أن الفصل الحاد بين المجالين: الأدبي، والثقافي عند تحليل النصوص متعذر، ومن هنا فلا وجاهة للدعوة إلى إنشاء أحدهما على أنقاض صاحبه؛ أولاً لأن كلاً منهما متداخل مع الآخر، وثانياً لأن معظم آليات تحليل النصوص في النقد الثقافي مستعارة من المناهج النقدية الشكلية: البنيوية، وما بعدها، وهي آليات شكلية لغوية في الأساس، ولعل هذا ما دفع الناقد سعيد يقطين إلى تأكيد امتزاج النقدين: الأدبي، والثقافي عند التطبيق، ورأى أن المشكلة الحقيقية ليست في مجال دراسة النص: نقد أدبي، أو نقد ثقافي، بل في نوع الرؤية النقدية للمجال، وكيفية تطبيقها. ويضيف الدكتور معجب الزهراني فكرة تؤكد هذا المنحى، وهي أن روّاد النقد الثقافي مثل: إدوارد سعيد، وتودوروف، وفنسنت ليتش لم يجدوا حاجة إلى إعلان القطيعة مع النقد الأدبي.
2- عن الشعرنة.. وعن الفقهنة أيضاً
يرى الغذامي أن «الشعرنة» في ثقافتنا العربية هي المسؤولة عن النسق المضمَر المبني على تمجيد الفحولة وصناعة الطغيان، وقد طرح الدكتور عبد العزيز السبيل مصطلحاً طريفاً بديلاً عن الشعرنة، وهو مصطلح: السيسنة؛ بمعنى أن المسؤول عن هذا النسق المضمَر ليس هو: الشعر العربي، بل السياسة، فليس هناك شعرنة للثقافة، بل سيسنة لها.
والسبيّل يتحدث هنا عن المحرِّك المصلحي للنسق، بينما حديث الغذامي يتجه إلى المهيمن الثقافي على هذا النسق، وهو في نظره: الشعر، وقد تتردد كثيراً في قبول هذا الاتهام الغذامي للشعر بالمسؤولية عن التحيز النسقي في ثقافتنا العربية، فهذا الكائن الجمالي المسكين الذي نعاه الغذامي نفسه، ونفض يديه منه وترحم عليه؛ كيف يكون هو نفسه المجرم الخطير المتسبِّب بكل الموبقات النسقية، والذي تُنصَب له مشانق النقد الثقافي في محكمة بلا قُضاة كما قالها يوماً كاليغولا!
لعلي إذن أنحت بدوري مصطلحاً جديداً يشير إلى المسؤول الأهم عن صناعة النسق في ثقافتنا العربية، فالواقع أن «الفقهنة» - إذا صح الاشتقاق - هي أكثر الحقول المعرفية اكتنازاً بالأنساق، وهي بعد ذلك المؤثر الأول في الناس بشتى مستويات وعيهم، ودرجات تعليمهم، وأنا أقول: أعطني خطاباً فقهياً واعياً ومتوازناً، ومحققاً للمقاصد الكبرى في الشريعة؛ ولاسيما: قِيَم التقوى، والعدل، والكرامة، والحرية المسؤولة، وسأعطيك مجتمعاً مدنياً راقياً، وحيوياً ومتلاحماً، ومتمسِّكاً أيضاً بثوابته الدينية، ونقد الخطاب الفقهي هو نقد لنسق ظاهر ومباشر، ولعل مثل هذا التوجه يستجيب لتساؤل الناقد عبدالله إبراهيم عن سبب اقتصار النقد الثقافي على نقد الأنساق المضمَرة؛ دون تجلياتها الصريحة في الثقافة والمجتمع.
3- المعنى في بطن النسق
هذا ما تبادر إلى ذهني وأنا أتأمل حديث الغذامي المستفيض عن النسق المخبوء في الثقافة.. نعم، هاهنا الآن منزل جديد يتعين على المعنى أن يحمل عصا الترحال مهاجراً إليه، بعد أن عصفت به رياح التيارات النقدية المتقلبة، منتقلاً بين ثلاثة بطون سابقة: بطن المؤلف، ثم بطن النص، ثم بطن القارئ؛ ليصل أخيراً وعلى يد النقد الثقافي، وبملعقة الغذامي الفضية إلى: بطن النسق!
«لا أشبع الله بطن النسق، ولا أهنأه بهذه الوليمة الدلالية المتخِمة» !.. هذا ما أظن أن ناقدنا الكبير سيدعو به أمام هذا المنعطف الجديد لمسيرة المعنى: الطريد أبداً، والمطارَد باستمرار.
4- بين الغذامي والجابري
في مشروعه الفكري الطموح لنقد العقل العربي تحدث محمد عابد الجابري عن ثلاثة أنظمة معرفية في تراثنا العربي، وهي: البيان، والعرفان، والبرهان، وأبان عن الإشكالات الكبيرة التي نشأت عن التداخل التلفيقي بين هذه الأنظمة المعرفية لدينا، وهو التداخل الذي دشّنه أبو حامد الغزالي، وعزّزه الرازي ومن جاءوا بعده، ثم حاول الجابري أن يقدم بعض الحلول للنهوض بالعقل العربي، ومن أبرزها: إعادة تأسيس البيان على البرهان، مع استبعاد النظام العرفاني القائم على التفسير الباطني للظواهر وتغييب العقل، وهو الحل الذي كان لعلماء المغرب الإسلامي إسهامات رائدة فيه، وبخاصة: ابن حزم، وابن مضاء، والشاطبي، وابن خلدون، ولإحياء هذا التأسيس من جديد يعرض هذا المفكِّر القدير عدداً من الخطوات المعرفية الهادفة إلى تصويب نظام إنتاج المعرفة في ثقافتنا العربية، الجابري إذن يشرّح الإشكالات المعرفية، ويقدم لنا في النهاية وصفته الخاصة بالحل.
أمّا الغذامي فهو يكشف عن تغلغل النسق الفحولي في ثقافتنا، وفي ثقافات العالم أيضاً، وكما يقول فإن النسق في الثقافة هو كالفيروس الكامن الذي ينخر في الجسد؛ ولأنه مضمَر يحتاج إلى حفر مستمر لاكتشافه؛ ولكنّ الغذامي الطبيب يكتفي بتشريح المرض؛ دون أن يقدم علاجاً له؛ سوى الكشف عنه، والتحذير منه! وإن أسئلة من قبيل: كيف نؤسس لخطاب مضاد للخطاب الشائع الموبوء بفيروس النسق؟ وما الآليات البديلة الكفيلة بتحصين جسد الثقافة من الفيروسات النسقية الكامنة؟ مثل هذه الأسئلة «العلاجية» لا تجد شُباكاً مفتوحاً لاستقبالها؛ لأنه ببساطة ليس هناك صيدلية لصرف الدواء في النقد الثقافي!
ويتكرر مع الغذامي هنا ما سبق أن تعرّض له جاك دريدا من نقد مماثل، فمنظِّر التفكيكية قدّم نفسه بوصفه هادماً للنظم الثقافية السائدة القائمة على التمركز المنطقي، وتهميش ما عدا المركز؛ لكنه لم يقدِّم بديلاً ثقافياً عما ينقضه، وكان الغذامي قد ذكر أكثر من مرة أنه ينتمي إلى تشريح رولان بارت، وليس إلى تفكيكية دريدا؛ معلِّلاً ذلك بأن بارت يمتاز بإعادة بناء ما يشرِّحه؛ لكنّ هذا التمييز النظري لم يجد صدى واضحاً في التطبيق عند الغذامي، وكان بإمكانه أن يكون أكثر إخلاصاً لنهج بارت في التشريح القائم على إعادة البناء؛ لو لم يكتفِ بإدانة الفحولة النسقية عند المتنبي، ونزار، والشعراء الآخرين.. لو تجاوز عملية التفكيك والهدم السلبي، وأعاد بناء المتنبي من جديد، أو جزء منه على الأقل؛ ليكن مثلاً: المتنبي (الحضاري) الذي قد يرى الغذامي أنه الأجدر بالبقاء والخلود، أمّا الشطب الكلي لقامة شعرية كبيرة بحجم أبي الطيب فهذا لا يخدم قضية النقد الثقافي؛ إذْ كأنك تقول للقارئ: إمّا أن تختار الإعجاب بالمتنبي بكل عنفوانه الشعري، وسحره الإبداعي، أو تختار تحكيم النقد الثقافي الذي يُفضي بك إلى الشعور الدائم بالذنب النسقي كلما ضبطتَ نفسك متلبِّساً بتهمة الإعجاب الجمالي بهذا الشاعر الكبير، وقسْ على هذا بقية الشعراء فإن الأجدى هو إعادة بنائهم - ثقافياً هذه المرة - وليس الاكتفاء بهدمهم وإدانتهم.
5- عصر ما بعد الجواب
هكذا يظهر أن الإجراء الوحيد الذي يقترحه النقد الثقافي في مواجهة النسق هو: المقاومة التي تعني: نقد النسق؛ عبر التساؤل عن دلالاته وأبعاده، وكشف مدى تغلغله في الثقافة، وهنا تنتهي القصة؛ دون وعد بحلّ جذري، أو فتح الأفق لتقديم بديل عن الثقافة السائدة، ولهذا الموقف المتحفظ ما يفسّره في حضارتنا الراهنة؛ إذْ كأنما في عصر الأسئلة لم يعد أحد قادراً على أن يقدم أجوبة شاملة، وأصبح الجهد الأكبر للمفكرين وأصحاب المشاريع الثقافية يتلخص في نقد الواقع، وكشف عيوبه فحسب؛ ربما لأنهم باتوا يعرفون أن تبنّيهم لمشروع بديل، أو تقديمهم جواباً مقترحاً لأسئلة الحضارة سيغدو بدوره حطباً تنضج على ألسنة ناره أسئلة جديدة لمفكّرين آخرين.. هل نقول إذن: إننا نعيش عصر: ما بعد الجواب؟ أي عصر ما بعد المعنى الكلي المنجَز؛ حيث تنتقل المفاهيم من طور الكينونة إلى طور التكوّن، ومن الحسم الدلالي إلى التأرجح فيه؛ لتغدو قابلة باستمرار للتشكل وفي حالة سيولة دائمة؟
هي معادلة بسيطة جداً، فالنقد: سؤال مفتوح، والنسق: جواب مغلق؛ ولهذا ليس غريباً أن يفضِّل النقد الثقافي سماء الأسئلة المفتوحة، ولم يكن الغذامي ليتردد في الاختيار هنا، وهو الذي عنون أحد كتبه المتقدمة بـ: ثقافة الأسئلة، واحتفى فيه بجيش الأسئلة الذي لا يُغلَب؛ مستنِداً إلى بيتين طريفين يُنسبان لأبي هلال العسكري، وهما لأبي إسحاق الشيرازي، وفي تراثنا العربي كانت هناك تجربة لافتة في جمعها بين ثقافة الأسئلة وثقافة الأجوبة في كتاب واحد اشترك في تأليفه كل من أبي حيان التوحيدي، ومِسكويه، وهو كتاب: الهوامل والشوامل، وكما هو متوقع فقد كانت أسئلة أبي حيان أذكى بكثير من إجابات مِسكويه.
«الأجوبة عمياء.. وحدها الأسئلة ترى» هكذا لخصت أحلام مستغانمي هذه المسألة الفلسفية برشاقتها اللغوية المعهودة، ولعل هذه العبارة لا تنطبق على عصر من العصور كما تنطبق على عصرنا: عصر النقد الثقافي المتسائل.
6- الحصان المسرَج على باب النسق
أجمل ما في فكرة: النقد الثقافي للنسق أنها تحرر النفس من ضيق العداوات الشخصية، وهو ما حدث تحديداً مع الغذامي، ففي كتابه: حكاية الحداثة تلمس في كلامه تسامحاً فريداً مع مناوئيه؛ حتى مع الذين هاجموا الحداثة وهاجموه بعنف ظاهر؛ مثل محمد المليباري -رحمه الله، فالغذامي يستبعد أن يكون العامل الشخصي هو المحرِّك الأول لهجوم المليباري عليه، ويرى أنه كان واجهة للنسق المحافظ للدفاع عن المألوف ضد الطارئ الثقافي؛ لكن يبدو أن الغذامي أعجبته لعبة التفسير النسقي فانخرط بالكلية فيها، فلم يُبق ولم يذر؛ ولهذا لم يوفر أحداً في كتابه السابق من الوقوع في أسر النسق المهيمن؛ حتى الحداثيين أنفسهم، وقد صادهم متلبسين بتهمة (النسقية) واحداً تلو الآخر، وهو ما جعل القارئ يتهيأ منتظراً أن يصيد الغذامي نفسه بالتهمة ذاتها؛ ولكنّ هذا لم يحدث!
كنتُ أنتظر هذه الإدانة الذاتية على الأقل في موضع واحد من الكتاب حين تحدث الغذامي عن اجتماع شارك فيه للاتفاق على مصطلح نقدي بديل عن الحداثة لتعميم استعماله بين الناس عبر الصحف والكتابات النقدية، وهو مصطلح: الواقعية التخييلية، وهذا موقف غريب عن أجواء الغذامي؛ إذْ هو مبني على وصاية فكرية جماعية على المجتمع والثقافة.
خارج هذا الكتاب قد يقول الغذامي: إنه لا يبرّئ نفسه، وإنه في النهاية ابن هذه الثقافة النسقية؛ ولكن كي ننتقل من هذا الإقرار الضمني العام إلى الشاهد العملي المباشر سنقول: إن تشنيع الغذامي على النسق الفحولي في الثقافة العربية لم يمنعه من اللجوء إليه والاحتفاء به في معاركه النقدية؛ كما حدث مثلاً في خصومته مع الشاعر محمد العلي؛ حين استشهد بمقولة بالغة الفحولة لمطلق الذيابي، وهي: حصاني مسرَج، ولكنّ الطريدة هزيلة.. ولو تأمل الغذامي قليلاً في هذه العبارة الهجومية التي استعان بها فلن يفوت على ألمعيته ما فيها من دلائل واضحة على نسقية فحولية وشعرنة للذات لطالما شنّع عليها؛ تبدأ من ذكورية الحصان، ولا تنتهي عند تأنيث الطريدة! وهو في خصومته تلك يتسلح بأبيات أبي الطيب المتنبي ليهاجم بها محمد العلي !.. هل فاتنا شيء؟ .. نعم، أبوالطيب هو نفسه الشاعر الذي يعدّه الغذامي الممثل الأكبر للشعر الفحولي المتسلِّط والمبني على المبالغة والكذب!.. لو كان عمنا الطيب أبوالطيب حياً لما فاته أن يتمثل أمام الغذامي بقول إبراهيم ناجي: أين يمضي هاربٌ من دمِهِ؟
والكلام السابق لا يعني أن العلي كان مبرّءاً من الغرض في تلك الخصومة، فقد كان دافعه الأكبر إليها الانتصار لأدونيس، و»لحداثته» المبنية على خلخلة الفكر السائد؛ تمهيداً لتجاوزه، وعلى إحياء الشخصيات القلِقة والاتجاهات الثورية في تاريخنا؛ مهما كانت أفكارها بائسة وظلامية؛ مادامت تحقق شرط أدونيس الذهبي، وهو: أن تكون مختلفة، ومتجاوزة، ومصادمة للمجموع؛ لكني أردت فقط أن أعطي شاهداً على صعوبة التحرر الكامل من هيمنة النسق الضاغط على آليات التفكير.
د. سامي العجلان - الرياض