غدًا، ستترك البيت الذي لم تختره ولم تنتق لون جدرانه أو ستائره، لم تختر الشريطة البنية التي تعلق بها مفتاحه ولا الكوب الذي تشرب به قهوتك في أول نهارك، لم تختر إطلالته على الباحة التي تكدست فيها علب الدهان ولا شرفته الضيقة، ستغادر إلى بيت آخر في قارة أخرى لا تنتقي فيه لون الجدران أو الستائر أو كوب القهوة أو الإطلالة. سينهشك الحنين إلى شوارع لم تكن حميمة معك، إلى أبواق السيارات وأصوات الباعة المتجولين والمتسولين الذين ينغّمون دعاءهم لك لترضى فتزيد!
غدًا، ستحمل معك في حقائبك الكبيرة أمتعةً بلا معنى سوى أنها كانت جزءًا من ملامحك، بطاقة الهاتف وإيصال المصبغة والإعلانات الورقية التي يحشرها الفتية تحت الباب لتؤكد لك أنهم «ليسوا الوحيدون ولكنهم الأفضل» هكذا بكل فجاجة الخطأ اللغوي! لن تنسى ثيابك المجعدة مثل روحك وحذائك الرث المهجور إلا من غبار الوقت الذي يمسحه بأثر فضيٍ رخيص كثياب مهرج السيرك.
تجمع أعضاءك المهترئة وتحزمها لتعيد بنائها كقطع التركيب حين وصولك إلى محطتك التالية، تعيد فردها وكيّها لتمنحك مظهرًا جديدًا نوعًا ما، وعند أول صافرة تثنيها ثانيةً وتمدّدها في قاع الحقيبة المرتوقة بالأمل، ذاك المنطاد الذي أفرغ من الهواء قبل أن تعي ذلك مانحًا إياك رقبةً مكسورة تضعها جانبًا مع سقط متاعك الذي تكرر لنفسك أنك ستتخلص منه فتجبن لأن ذاك يعني أن تتخلص منك!
غدًا أو بعد غدٍ، ترحل تاركًا أثرًا منك في هذه البلاد، ضرسك المسوّس الذي لن تهبه للشمس، وسن مشطك المكسور الذي علقت فيه شعرة كانت أقوى منه ومنك! تغيب تاركًا بصمتك الزرقاء معلقة على جدران الدوائر الحكومية، وظفرك الذي ظل أثره على بابك الهزيل، يتساقط كل ذلك منك كأنك تترك أثرًا ليقتفيه أحدهم فلا تقتفيك سوى الريح!
ما أكثر الغد وما أقلّك!
«خارج الطقس،
أو داخل الغابة الواسعة
وطني
هل تحسّ العصافير أنّي
لها
وطن... أو سفر؟
إنّني أنتظر»
محمود درويش
بثينة الإبراهيم - القاهرة