طرحتُ في المقال السابق مجموعةً من التساؤلات التي أرى أنَّ حضور إجاباتها الدقيقة الواضحة مهمٌّ جداً قبل أن تفكِّر أيُّ مؤسسةٍ تعليميةٍ في إقامة مؤتمرٍ أو ندوةٍ أو لقاءٍ علمي بين رحابها، وأكَّدتُ أنَّ هذه الأسئلة وغيرها يكشف للقائمين عن الجدوى الحقيقية من إقامة مثل هذه المناسبات، إن كانوا جادِّين حقاً في البحث عن فائدة وراء هذه المؤتمرات والندوات.
إنَّ القريب من الشأن الأكاديمي، والمطلع على واقع جامعاتنا السعودية يلحظ إخفاقها الكبير على هذا المستوى، ويُصدَم بالطريقة التي تقام بها هذه المؤتمرات، ويعجب من الكيفية التي تُدار من خلالها، ولعلَّ أهمَّ أسباب هذا الإخفاق اعتقاد كلُّ جامعةٍ أنَّ لديها القدرة في إقامة هذه المناسبات العلمية، دون النظر إلى مدى كفاءتها التنظيمية والإدارية والعلمية، ودون النظر إلى خبرتها وقوة تخصصها في موضوع المؤتمر، فالمهم لديها أن تقيم هذه المناسبة، وأن تدعو إليها الرعاة، وأن يُعلن ذلك في كلِّ الوسائل الإعلامية المتاحة، فهذا هدفٌ لا محيد عنه، وغايةٌ لا يمكن التنازل عنها، ومن المؤسف أن تدرك بعد هذا أنَّ المؤسسة التعليمية تقوم بذلك لتحقيق أهدافٍ شخصية، حيث تظنُّ أنَّ اتجاهها لإقامة مثل هذه المناسبات والإكثار منها سوف يزيد من رصيدها المعرفي والثقافي، وأنَّ هذا سيساعدها على منافسة بقية جامعات المملكة، وربما طمحت إلى أبعد من هذا، بأن يكون لها مكانٌ بين الجامعات العربية أو في التصنيف الدولي!
إنَّ الأمر الذي لا تعيه بعض جامعاتنا الحبيبة، أو لا تريد أن تعيه أصلاً، أو ليس لديها القدرة بأن تعيه، هو أنَّ إقامة مثل هذه المناسبات ليس الهدف منه (البهرجة الإعلامية)، أو (التطبيل الصحفي)، أو طباعة تلك اللوحات الدعائية الضخمة المكلفة، وتعليقها في كلِّ زاويةٍ من أسوار الجامعة، لمجرَّد لفت نظر المسؤول إلى جهود الجامعة، وحتى يفخر المنتسب إليها بهذه الأضواء التي تُسلَّط على مؤسسته، وهذه هي المشكلة الكبرى التي تفسد المؤتمرات وتشوِّه سمعتها في الداخل والخارج، وهي العقدة التي لو تمكَّن المسؤول من التخلص منها، واستطاع أن ينظر إلى هذه المناسبات النظرة المأمولة المفترضة، وأن يتعامل معها تعاملاً علمياً باحترافية، وأن يحرص بشدَّةٍ ومسؤولية على أن يفيد من أوراقها العلمية وما يثار حولها من مناقشات ومداخلات، أقول: لو حصل ذلك لوجدت لدينا تطوراً ملحوظاً في ميدان البحث العلمي، وألفيت جامعاتنا تصعد إلى مراتب متقدِّمة على المستوى العالمي.
إنه لمن المؤسف حقاً أن تُخصَّص تلك الميزانيات الضخمة على إقامة مثل هذه المناسبات، وتُهدر الأوقات في العمل فيها، ويُفرَّغ عددٌ من الأكاديميين والموظفين للإشراف عليها ومتابعتها، ثم لا تجد في نهايتها فائدةً تستحقُّ الذكر، وأظنُّ أنَّ من أهم الأسباب التي تؤدي إلى ذلك عدم وعي المسؤولين في جامعانا بأهمية هذه المؤتمرات، وعدم إدراكهم ما يمكن أن تثمر عنه من نتائج يكون لها أثرٌ كبيرٌ في معالجة موضوع المؤتمر أو قضية من قضاياه، أو من توصيات ختامية ينبغي أن تحتل مساحةً واسعةً من اهتمام المسؤولين.
وحتى لا يُظنّ أنَّ في كلامي هذا مبالغةً أو تجاوزاً للحق، أقدِّم في هذا السياق مقترحاً للمسؤولين عن جامعاتنا، أتمنى النظر إليه بعين الاعتبار والعمل به، وهو أن يتم تكليف كلُّ جامعةٍ من جامعات وطني الغالي بإعداد تقريرٍ مفصَّل عن جميع المناسبات العلمية التي أقيمت فيها، سواء أكانت مؤتمرات أو ندوات أو لقاءات، وذلك خلال الثلاثين سنة الماضية بالنسبة للجامعات العتيقة، ومنذ الإنشاء بالنسبة للجامعات الحديثة، على أن يُوضَّح في التقرير موضوع المناسبة وتاريخها والمشاركون فيها علمياً وتنظيمياً، والميزانيات المرصودة، والأهم من هذا كله التوصيات التي نتجت عنها.
ثم تدرس هذه التقارير دراسة وافية؛ كي يمكن التعرف على الموضوعات التي عُولجت، والجدوى منها، ومدى قربها وملامستها للمجتمع والوطن، وجدّتها ومعاصرتها وارتباطها بالزمن الذي نعيش فيه، كما يُنظر في التوصيات نظرةً فاحصة، وما تمَّ تنفيذه منها على أرض الواقع، وما بقي منها في الأدراج حبراً على ورق، والبحث في الأسباب التي حالت دون تنفيذها.
إنني لا أشكُّ في أنَّ النظر في مثل هذه التقارير سيكشف الواقع المؤلم لمؤتمراتنا الجامعية، وسيؤكد أنَّ كثيراً منها يُعقد كإجراءٍ روتيني لإرضاء المسؤول، بعيداً عن الفائدة العلمية والبحثية، ناهيك عن التكرار في الموضوعات والأسماء؛ لأنَّ الأهمَّ هو الإعلان والإعلام، والوقوف أمام الشاشات والإدلاء بالتصريحات التي تُوقن فور سماعها أنَّ الهدف الحقيقي من عقدها هو هذا الظهور فحسب، وتجزم حين تتأمل فيها أنَّ هؤلاء المسؤولين لم يعلموا بأمر المؤتمر إلا حين بدأت الحملة الإعلامية، فأرادوا أن ينالوا نصيبهم المعتاد من الأضواء الزائفة، وللحديث بقية.
- الرياض
omar1401@gmail.com