بمفهومها المستهلك في وسائل الإعلام (الثقافة: نثرٌ وشِعر) لم تتطور كما تطوّرت العلومُ والصناعات الآلية والتقنية والحرفية الأخرى، بل إنها لم تتطوّر كما تطوّرت الفنون الأخرى في الطرب والتمثيل والتشكيل أيضاً، ولا حتى واكبت تطوّر الكتابات الأخرى في الإخبار والتحليلات السياسية والاجتماعية والمتابعات الطبية.. ولكنها تغيّرت.
التغيّر الذي ألاحظه، وإن كان إيجابياً من بعض جوانبه في أخذ الثقافة إلى اتساع من بعد ضيق، إلاّ أنه يسلبها أهم مقوماتها الجاعلة لها هيبة في المجتمع وتقديراً حتى عند من لا يحسن القراءة، بأن يدرك عمقاً ومحصلات تجارب حقيقية مع كل مادة شعراً كانت أو نثراً. كان (الإبداع) هو أساسُ المادة الثقافية، حتى الفلسفية والنقدية والسير الذاتية كان الإبداع مفتتحها ومتنها وخاتمها؛ فلماذا الآن بات كل شيء يبدأ وينتهي بمعزل عن الإبداع؟ هل ملَّه الناسُ في هذا الزمن أم أنه قد صَعُب عليهم؟!
أعمم إن شئتُ أو أخصص – سيّان – فالشمس لا تحجب بغربال، والمتابع سيجد أن القاعدة في صلاحية أيّ مادة ثقافية للنشر، سواء في صحيفة أو كتاب، قد تغيّرت تماماً، وما الاستثناءات القليلة جداً إلا شهادات على تغيّر الثقافة بعزوف مبدعي القراءة عنها!
أقول (عزوف مبدعي القراءة عن الثقافة) وأعني هذه العبارة، بعد أن سمعتُ من مثقفين فاعلين وغيرهم من مبدعي قراءة الثقافة الحقة أن قراءاتهم للصحف باتت مقتصرة على تحليلات الأخبار، سياسية كانت أو اجتماعية، بينما صفحات الثقافة لم تعد تهمهم ليس لعدم اهتمامهم بالثقافة بل لأن الثقافة نفسها – في معظم مواد كاتبيها – لم يعد فيها ما يشدّك إليها ويجعلك تقرأ بنهم كما كنت سابقاً.
يقولون إن الصحافة، في كل الدنيا، بدأت أدبية، وانتشرت بين الناس بسبب موادها الأدبية، والآن صرنا نستبعد كلمة (أدب) ونبرز كلمة (ثقافة) وسبق أن كتبتُ مقالات كثيرة أوضّح في بعض فقراتها الفرقَ المهول بين الصفتين وأنه لصالح الأدب فليس كل كلام يصلح أدباً، بينما الثقافة هي كل شيء.. وأيّ شيء!
فهل نقول إن الأدب تغيّر؟ لا. يبقى الأدبُ أدباً لا يمكن الاعتراف به إلا حينما يأتي بإبداع، أما الثقافة فقد كانت تتضمن أدباً يجبرها أن تتجمّل إبداعاً كيفما جاءت، غير أن الزمن الراهن، بكثرة كتّاب الثقافة فيه قد ميّع الأدب حتى حيّده بمنأى عن الثقافة وبالتالي عوّم الثقافة وجعلها تخفق في كل اتجاه متخبطة لا يضبطها إيقاعٌ أدبيّ ولا يسمو بها إبداعٌ خلاّقٌ في تركيب المفردات وتسلسل المعاني.
عمّاذا كنا نتحدّث؟
ونسيتُ الشرفةَ والأبوابَ
نسيتُ عدوُّيَ والأحبابَ
ولم أنسَ النغماتِ الأولى:
لثغة طفلٍ يفهمُ أنَّ الصوتَ حلالٌ
حينَ يكونُ الصمتُ حراما..
يفهمُ أنَّ الضوءَ سماءٌ
حينَ تكونُ الأرضُ ظلاما..
- الرياض
ffnff69@hotmail.com