في الفلسفة دائمًا نقول: هذا السؤال من الأسئلة الكبيرة في الفلسفة العامة. ونقول أيضًا عند التفرع والتعمق: هذا سؤال مهم أو مفصلي أو ضخم أو أساسي في فلسفة الأخلاق مثلا، أو في فلسفة الجمال، أو في فلسفة التاريخ.. وهكذا دواليك مع بقية مجالات أو موضوعات أو أقسام أو فروع الفلسفة الأخرى.
ومن هذا الباب أستطيع أن أقول: هناك أسئلة كبرى كثيرة هامة وقوية ومفصلية، تدور حولها فلسفة القانون بشكل عام، ويدندن على أوتارها دائمًا المشغولون أو المهتمون بهذا الحقل المهم من حقول الفلسفة؛ ولعل من أبرز ما يلامس عنوان موضوعي منها السؤال التالي:
هل يستطيع الناس، أو بتعبير أدق: هل يستطيع المشرّعون منهم بعقولهم وحدها بناء التصوّر الأمثل للمجتمع المستقر الذي يقوم على العدل والمساواة بينهم، بشكل يحقق بين أفراده الأمن والسلام الدائمين أو المستمرين لأوقات طويلة؟
هذا السؤال -بصياغتي الخاصة- هو من أبرز أسئلة فلسفة القانون عندي، فكثير من فلاسفته وكتّابه ومؤلفيه والمهتمين به، لا ينشدون شيئاً في نهاية المطاف إلا الأمن والسلام الدائمين، فجلُّ أقوالهم وكتاباتهم ونشاطاتهم المختلفة ليست إلا البحث عن الطرق والآليات والكيفيات والأساليب المثلى القادرة على تحقيق السلام والمحافظة على الأمن المستمر بين الناس لأطول الأوقات الممكنة.
إننا حين ننظر إلى «العقد الاجتماعي» وما أدراك ما العقد الاجتماعي، نجد أنه يتكرر في كثير من التخصصات وميادين المعرفة؛ ولكننا نلاحظ تكرره بشكل أكثر في علمي الاجتماع والقانون، فما هو القاسم المشترك بينهما يا ترى؟
القاسم عندي بلا شك هو البحث عن «الأمن» والسعي نحوه، فما هو هذا العقد الاجتماعي، وما علاقته بموضوعنا (فلسفة القانون)؟
الإجابة تطول؛ ولكني مضطر للتبسيط الشديد فأقول: حتى نفهم هذا العقد الاجتماعي بصورة جيدة، يحسن بنا أن ننظر إلى آراء أبرز فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر تحديدًا، الذين اهتموا بهذا الموضوع، ومنهم توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، والحقيقة أنهم يتفقون رغم كثرة كلامهم واختلافهم في بعض الآراء.. يتفقون على أن الدول تنشأ والأوطان تتنظم من خلال عقود يبرمها الناس فيما بينهم، وهي (العقود الاجتماعية).
وشرح هذه العقود ببساطة عندي هو أن البشر كانوا في حالة شر واعتداءات وإساءات متبادلة في حالتهم الأولى، أي في حالة (الطبيعة) القديمة، التي لا أحد يأمن فيها على نفسه ولا على ما يملك، وهذا ما جعل الناس يتجهون تدريجيًا للخروج من هذه الحالة السيئة الشريرة إلى الحالة الجيدة الجديدة (حالة الثقافة)؛ ومن جهودهم في هذا الانتقال أنهم أبرموا عقوداً أنشأوا بها المجتمعات (الدول). ومفرد هذه العقود هو العقد الاجتماعي الذي يعرفه «هوبز» مثلا تعريفاً ألخصه بصياغتي وحسب فهي بأنه: عقد أطرافه الناس جميعاً من جهة، وفرد آخر أو مجموعة محدودة من جهة أخرى، وبمقتضى هذا العقد تنازل الناس عن شيء من سلوكياتهم وممارساتهم وحقوقهم التي كانوا عليها في حالة الطبيعة لذلك الشخص الذي صار ملكًا أو حاكمًا، بشرط أن يلتزم ويؤدي مسؤوليته الكبيرة الواجبة عليه، وهي بناء قوته كرئيس سياسي، وصيانتها، حتى يتمكن من تأمين استقرار الجماعة، ونشر الأمن والسلام في ربوع المجتمع.
أما علاقة العقد الاجتماعي بموضوعنا فلسفة القانون، فأحب شخصيًا أن أنظر إليها بالطريقة التالية:
البشر يحتاجون الأمنَ في مجتمعاتهم، والأمنُ لا يمكن أن يتحقق إلا بالوصول إلى الشروط الأفضل للعقد الاجتماعي في كل مجتمع بما يناسبه، أو بالوصول إلى الشروط العامة الكبرى الأساسية الأكثر شمولية لتحقيق هذا العقد الاجتماعي بصورة تكفل الأمن والسلام في المجتمعات الإنسانية ككل.. وهذا العمل كلّه، أعني البحث والتنقيب الدقيق عن الأصلح من الضوابط والشروط هو مدار ومحور كثيرٍ من الجهود في فلسفة القانون، كشروط وآليات توزيع (خيرات الوطن) بصورة عادلة بين الناس، وفق ما لديهم من مقومات ومعطيات وأدوات وإمكانات ومؤهلات وخبرات... الخ، وكوسائل تقنين (قوة السلطة) بهدف تعزيز دور القانون في المجتمع والدولة بشكل عام، ودوره أيضا في حفظ حقوق كل فرد من أفراد المجتمع من مختلف النواحي.
وبناء على فهم ما سبق عن العقد الاجتماعي وغيره، أضيفُ مجيبًا عن السؤال الوارد في مطلع المقال:
لقد انقسم الفلاسفة كما ظهر لي في موضوع فلسفة القانون تحديدًا إلى معسكرين ضخمين، الأول يشمل كلَّ القائلين بأن البشر قادرون بعقولهم وحدها بعيدًا عن الميتافيزيقا، إلى وضع القوانين العادلة القوية الشاملة القادرة على تحقيق الأمن والاستقرار وتطبيق العدالة والمساواة في مجتمعاتهم.. ويدخل في هذا المعسكر مثلا الذي يعتبرون القانون مجموعة من التعاليم المنظمة التي يصل إليها الإنسان ويقررها ويطبقها عن طريق الخبرات والتجارب الإنسانية التي تتراكم مع مرور الزمن.. ويدخل فيه أيضًا الذين يرون أن القانون منظومة من القواعد والأحكام التي تلزم الطبقة المتسلطة بقية أفراد المجتمع بها، ومن هنا ساد بين كثير من الناس في بعض المجتمعات أن العدلَ حلمُ الضعفاء المفقود، وأن القانون -كما التاريخ- يكتبه الأقوياء المنتصرون المتنفذون ليسيطروا به على الضعفاء المسحوقين المقهورين، ولا يطبّق عليهم، أي لا يطبّق على الأقوياء.
والمعسكر الثاني يشمل كلَّ القائلين بأن البشر عاجزون عن ذلك بالصورة الكاملة العادلة تمامًا، فالقانون طبيعي لا وضعي، ومن هؤلاء من يرى أن التشريعات والأنظمة الصحيحة الأنسب لحياتنا هي قوانين ميتافيزيقية جاءت مما وراء الطبيعية، أي أن مصدرها إلهي، أو أنها منزلة من الله، أو أنها نشأت أو أقرّت بعناية ربانية أو وفق نواميس كونية.. وهكذا.. ومن ذلك القوانين الدينية، كالشريعة الإسلامية مثلا، التي يراها كثير من المسلمين الأنسب والأتم، بل يرون كفر من لا يرضى بها وبحكمها في مجتمعاتهم.. أو كشريعة حمورابي في بابل القديمة، فقد أعلن حمورابي أن (إله الشمس) هو الذي أعطاه هذه القوانين في صورتها النهائية التي طبقها.
ويدخل في المعسكر الثاني أيضًا القائلون بأن القانون هو موروثات من العادات القديمة التي ارتضتها الآلهة للناس، أو أنه الحكمة المأخوذة من الحكماء الأوائل، الذين ارتبطوا بالآلهة والأرباب، أو بعبارة أدق: الذين فهموا المسلك الصحيح الذي تقرّه الآلهة وتريده.. ويدخل في هذا المعسكر أيضًا مفهوم «توما الأكويني» ومن ماثله، من الذين يعتقدون أن القانون انعكاس للعقل الإلهي الذي يدبّر الكون، أي أنه انعكاس لما يتحتم على البشر القيام به، باعتبارهم مخلوقات أوجدتها الآلهة وميزتها عن بقية المخلوقات، بأن وضعتْ فيهم (العقول الواعية) التي تعمل وفق أوامر (العقل الإلهي).
عندما نسمع أو نقرأ أو نكتب أو نقول: «القانون الوضعي»، فالمراد ببساطة هو القوانين التي شرّعها الإنسان في مجتمع وزمن محددين، ومن ذلك نفهم أن القانونَ الوضعيَّ قانونٌ نسبيٌّ غير مستقر، فهو يتحوّل ويتغيّر ويتبدّل ويختلف بتغيّر واختلاف المجتمعات والأزمنة.
أما القانون الطبيعي فهو ببساطة أيضًا (النظام الكوني)، أي القانون الذي لم يضعه الإنسان، فهو أعلى وأسبق من كلِّ القوانين الوضعية التي شرّعتها البشرية في مختلف عصورها ومجتمعاتها؛ وهو قانون على اسمه (طبيعي) أي موجود في الطبيعة أو (النظام الطبيعي) ولذلك فهو قانون مطلق لا نسبي، ويجب على البشرية -في نظر مدرسته- أن تجتهد في اكتشاف تلك القوانين الطبيعية الموجودة في طبيعة الأشياء من حولها، ثم استخلاص ما يناسبها منها وتقنينها؛ أي وضعها في قوانين تحكم وتنظم علاقات وتعاملات الناس في المجتمعات.
فالمدرسة الطبيعية إذن (مدرسة ثنائية) لا تنفي وجود القانون الوضعي ولا أهميته؛ ولكنها ترى أن الواجب على القانونيين أثناء وضعهم وتشريعهم لقوانينهم أن ينتبهوا للقانون الطبيعي الأسمى والأرفع الموجود فوقهم أو حولهم، فهو الأصل والأهم، فيتحتم على المشرّعين من البشر الاحتذاء والاقتداء به أو العمل تحت نوره أثناء كتابة تشريعاتهم وموادهم النظامية المختلفة؛ لأن كل قوانينهم الوضعية النسبية يجب أن تكون لها (مرجعية) تنتمي وتعود إلى القانون الطبيعي المطلق.
وعلى العكس من موقف وتوجه المدرسة الطبيعية يأتي الوضعانيون الذين ينفون كلَّ ذلك، بل ينفي كثير منهم وجود القانون الطبيعي من الأساس، ويصرّون على أن الواجب على القانونيين هو العمل من جانب واحد فقط، هو القوانين الوضعية فحسب، فلا وجود لشيء اسمه القانون الطبيعي.
والحقيقة هي أني لابد أن أتوقف هنا عند موضوع (الفلسفة المادية)، فلها علاقة وطيدة -فيما يظهر لي- بموضوعنا هذا، فالمتأمل قد يتضح له -كما اتضح لي- أن الازدهار الجبار للفلسفات المادية وما رافقها من تقدم كبير للعلوم ساهم بقوة في انتشار المذهب الوضعي الذي يُعتبر اليوم المذهب الأساسي الأبرز لغالب الحقوقيين والقانونيين في العالم.. فالفلسفة المادية هي فلسفة مقابلة للفلسفة الروحانية أو المثالية، وترى أن المادة هي المنتجة لكل الموجودات، فهي بالتالي فلسفة لا تؤمن بوجود الإله ولا ترى الأديان إلا الوهم والخداع.. والماديون يجزمون بقوة وإصرار عجيبين أن خلف المادة مادة، وليس خلف المادة روح كما يرى الروحانيون، فالمادة سابقة والوعي لاحق عندهم.. وهذا هو المبدأ الأساسي الأول الذي تقوم عليه كلُّ كيانات الفلسفات المادية المختلفة.
وتبعًا لذلك نجد الماديين في (نظرية المعرفة) يرون أن الحسَّ والتجربة هما أداتا المعرفة الأساسيتان، فبهما يستطيع الإنسان -من خلال دراسة العلوم الكثيرة المتعددة- أن يصل إلى معرفة العالم بصورة جيدة بعيدة عن الفهم المثالي، فالفكر في نهاية المطاف عند الماديين، ليس أكثر من مظهر من مظاهر المادة، بل إن «الذهن» في نظرهم هو أعلى نتاج للمادة.. وهذا بلا شك أثر على كثير من التخصصات والعلوم والمجالات ومنها (القانون)، حيث زاد من قوة وثبات موقف الوضعانيين في نظري.
ومن المهم جدًا بعد أن انتهينا من التوضيح المبسّط السابق أن نتعمق قليلا في موضوع (القانون الطبيعي)، فقد انقسم أتباع مدرسته إلى أقسام، منها القسم الديني مثلا، حيث يرى كثير من فلاسفة المسيحية أنه انعكاس لإرادة الخالق، ويتفق معهم فلاسفة ومتكلمون مسلمون كثيرون أيضًا، حيث ينظرون إلى العقل كمصدرٍ للتشريع؛ لأنه يكتشف القوانين العليا الموجودة في الطبيعة التي خلقها الله بكل ما فيها من أنظمة وقوانين.
أما فلاسفة اليونان السابقون فيرى عدد منهم أن سعادة الإنسان تتحقق باتباع القانون الطبيعي، وقد تكررتْ عندهم عبارة: (العدالة الطبيعية) وتتحقق في نظرهم أيضًا بـ(القوانين الفطرية)، التي يرون أن السعادة لن تحصل لمن يتمرّد عليها، ولا احترام لأيّة قوانين وضعية عندهم أيضًا، إلا بشرط تطابقها مع القانون الطبيعي وسيرها في فلكه.
ويرى بعض متأخري الفلاسفة أن مصدرَ القانون الطبيعي هو (العقل البشري)، وليس النصوص أو التعاليم الدينية.. وللحديث بقية.
وائل القاسم - الرياض