قرأت رواية «طبل الصفيح»، منذ سنوات ورغم ذلك بقي جوها الفني العام، وظلال بطل الرواية الطفل أو القزم أوسكار وعلاقته الفريدة بطبلته وحنجرته الخارقة عالقا في ذهني، لقد جاءت تلك القراءة البعيدة مصادفة دون أن أعرف مسبقا عن الرواية الشهيرة أو مؤلفها الألماني المعروف غونتر غراس(1927 - 2015) فقد كنت في زيارة لمكتبة أرامكو وكنت أتفحص عناوين بعض الكتب من أجل أن اختار مجموعة منها للاستعارة وقد جذبني عنوان الرواية وصورة غلافها وأتذكر أنني قرأتها في وقت وجيز كما حاولت البحث عن معلومات تشبع فضولي تجاه كاتبها. واليوم إذ أعود لتصفح الرواية من جديد بعد رحيل غراس يستوقفني أسلوب السرد الرشيق الذي تمحي معه حدود الواقعي بالمتخيل ويبدو وكأنه مزيج متناقض شديد الانسجام. غير أنني لم أحب استغراقه أحيانا في تقليب ذات الفكرة على عدة أوجه دون هدف واضح كما وهو يحكي عن جده لأمه وقصة هروبه برفقة جدته وقد كان مطارد.
غير أن الرواية بشكل عام شدتني من جديد بعوالمها المفعمة بالفن والإبداع وبانجذاب بطلها لاجتراح فن السرد الذي يلعب بالنسبة له عدة أدوار وتبيان فلسفته تجاه فعل الكتابة حيث الورق قبل ارتكاب إثم الكتابة «برئ»، وبعدها يولد الارتباك والحيرة. ناجحا عبر سطور قليلة في تلخيص أزمة الكتابة لدى الكاتب والمحيطين به:» وعثرت على قلم حبر في القارورة الى جانب ألبوم الصور، كان القلم مليئا تماما بالحبر، لا نقص فيه لكن كيف سأبدأ؟ إن المرء يستطيع أن يبدأ القصة من الوسط، ثم يسير بها متقدما أو متراجعا، بجرأة مخلفا وراءه الحيرة والارتباك. ويمكن أن يبدو المرء معاصرا فيلفي الأزمان والمسافات كلها، ليعلن، أو يدع الآخرين يعلنون أنه قد حل معضلة المكان - الزمان، وكذلك يستطيع المرء أن يدعي منذ البداية بأن من المستحيل كتابة رواية في هذه الأيام، لكن يراعه سيجود فيما بعد، ومن خلف ظهره كما يقال بتسطير عمل لا مثيل له، وبتسجيل سبق أدبي، ثم يتوج نفسه في آخر المطاف باعتباره آخر من استطاع كتابة رواية».
ورغم أن العمل صادر منذ العام 1959 أي في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلا أنه بدا لي وكأنه يحكي في أحد أوجهه ما يعانيه إنسان اليوم من شعور متفاقم بالعزلة رغم ما يعج به العالم من وسائل للتواصل إضافة إلى اضمحلال حدود الفرادة :» قلت في نفسي، أنا أيضا، بأن من المناسب، من ناحية ودية متواضعة التأكيد منذ البداية على أن : لا وجود اليوم لأبطال الروايات، لأن ليس هناك شخصيات فردية، ولأن الفردانية قد اختفت، ولأن الانسان بات معزولا، بحيث أن كل انسان أصبح منفردا بالقدر ذاته، ومحروما من العزلة الفردية، ومشكلا كتلة فردية خالية من الأسماء والأبطال».
كما يبدو واضحا في نسيج السرد قدرة غراس اللافتة التي تتجلى على لسان بطله أوسكار وهو يصف مشهد لقاء جدته بجده على رصد ورسم ميكانيكية أصغر فعل يمكن أن يمر دون أن يسترعي الانتباه لكنه بوصفه التصويري الدقيق له يكشف بعض الخصائص النفسية لأبطاله.
ويحضر الطبل في الرواية كمعادل للعديد من القدرات المغيبة والمستلبة للبطل: «ليس من السهل أبدا أن أعيد تصوير سحب الدخان التي كانت تنبعث من نيران أعشاب البطاطس والخطوط المتوازية لمطر أكتوبر وأنا مضطجع هنا في السرير الحديدي المشطوف بالصابون، في سرير مصحة العناية والعلاج وتحت رحمة العين السحرية المزججة والمسلحة بعين برونو. ولو لم يكن معي الطبل الذي كان يتذكر جميع التفاصيل الثانوية والضرورية لتدوين الحدث الرئيسي على الورق، إذا ما استخدمت الطبل بتأن واتقان. ولو لم تسمح لي إدارة المصحة باستنطاق طبلي ثلاث أو أربع ساعات يوميا، لأصبحت إنسانا بائسا مسكينا، ليس له أجداد يمكن البرهنة على وجودها».
وتحكي الرواية في إطارها العام سيرة طفل أدى سقوطه في عمر الثالثة إلى توقف في نموه الجسدي والعقلي نتيجة تأثر الدماغ غير أنه يكتشف في نفسه قدرة فائقة على تحطيم الزجاج بمجرد أن يطلق حنجرته للصراخ ويأتي فعله هذا كتعبير عن الخوف والقلق والاحتجاج: «كان الخوف والقلق هما ما دفعاني إلى استخدام أوتار حنجرتي استخداماً هادفا». ومع الأيام يتحول أوسكار الذي يستعيد عبر فصول الرواية ذكرياته بعد أن أصبح نزيل مصحة عقلية إلى قارع طبول في فرقة للجاز وتتضمن الرواية إشارات واضحة حول تاريخ ألمانيا السياسي في عهد النازية وما بعدها، وفي ترجمتها الصادرة عن دار الجمل تصل عدد صفحاتها إلى 744 وقد تم تحويلها إلى فيلم عام 1978 حاز جائزة السعفة الذهبية وجائزة الأوسكار، ونال بسببها غراس جائزة نوبل عام 1999 وقد جمع غراس بين عدد من المهارات كمهارة كتابة القصة والرواية والشعر والكتابة المسرحية والرسم والنحت ورحل مؤخرا عن عالمنا عن عمر87 عاماً بعد أن أثبت أن الإبداع والثقافة في المقام الأول مبادئ ومواقف وممارسات جمالية وأخلاقية على أرض الواقع قبل أن تكون عالماً جميلاً ومتخيلاً.
شمس علي - الدمام