نجران مدينة غير اعتيادية، وهي أحد حواضر العالم القديم، كمكة وصنعاء وبصرى، وهي أيضاً مدينة الأخدود، ومجرد الوقوف بها يستدعي تواريخ وأزمنة وتقاطعات ديانات عبرتها الأديان السماوية وغير السماوية، وغزاة أيضاً وشعراء وصعاليك وحالمون، وذلك قدر المدن العظيمة,.. نجران التي أنصفها التاريخ وظلمتها الجغرافيا لتنتهي مدينة على حافة البعيد من كل شيء.
القاصة والكاتبة النجرانية فاطمة آل تيسان حاولت التقاط بعض هذا التاريخ العظيم من خلال روايتها «وادي المؤمنين» الصادرة عن دار طوى في 134 صفحة للعام 2015.
وادي المؤمنين عنوان الرواية.. هو أيضاً وادي العرض، وهو وادي نجران الذي رصدت فيها كاتبة الرواية عوالم «إنثربيولجية» وأساطير وحكايات وطقوس وعوالم كانت هناك وما زلت، محاولة اجتزاء جزء من التاريخ الأسطوري لهذه المنطقة التي شاءت الجغرافيا أن تكون هناك، وقد لامست بحذر كثيراً من المسكوت عنها في هذي الوادي، وتعرضت وربما لأول مرة في رواياتنا لذكر اليهود الذين كانوا هناك منذ القدم يمتهنون صناعة الفضة والنحاس وباقي الصناعات اليدوية التي كانوا يجيدونها، وكان يأنف منها الفلاح النجراني قبل أن يغادروها لليمن مدينة (صعدة)، كما في الرواية، ومن ثم يغادرون إلى فلسطين التي عبرت عنها بالبحر بالعيد.
الملاحظ في الرواية منذ الوهلة الأولى هو الحضور الطاغي للموت، كون الأمراض إحدى المكون الرئيس لمجتمعات لذلك الزمن، ومن خلال مرض «السدم» الملاريا المقيم دوماً في القرى.. «البش» الجدري الزائر الذي تفتح مقابر باسمه، أو من خلال الغرق الذي كان العامل الرئيس الذي يتخطف الناس ويرسلهم نحو مصائرهم الأخيرة. وبالطبع قصص العشق ذلك المكون الرئيس لكل حياة الجنوبيين والذي ما ينحو دائماً نحو الأسطورة مكوناً قصصاً في ذلك الوادي لتتداولها الأجيال، كقصة علياء وابن ثامر أو قصة زهراء وسالم التي احتزمت فيها القبائل البنادق والحناجر من أجل فتاة خطبها الغريب.
وادي المؤمنين هي رواية فاطمة الأولى، ولإن كانت قد نجحت كثيراً في القبض على عوامل وطقوس تنازع البقاء وسجلت بعين ثاقبة الكثير من حياة الوادي إلا أنها أيضاً أوغلت أحيانا في السرد الحكائي ذي المستوى الواحد وبطريقة وصفية مغفلة بعض الشخوص الذين كان يمكن أن يكونوا أكثر حضوراً في الرواية كشخصية صابر الذي تسمى باسم يهودي «يوسف» وذهب مع المهاجرين اليهود نحو صعدة ثم صنعاء ثم عاد لوادي العرض دون تفاصيل أكثر.
لغة الرواية سهلة ومشوقة، وعنصر الصدق والامتنان للمكان طاغ فيها.. لكأنها وثيقة تحاول القبض على ما لن يكتب، وما سوف ينسى، كأساطير الجنيات والحياة والسحر، وعادات الزواج والحصاد، وثنائية الرحيل والحضور الذي يتجدد كل يوم.
البطل في الرواية هو المكان.. وهو مكان جدير بالبطولة وببطولات أخرى تستحق. وما سجلت الراوية من هذا المكان هو القليل والقليل جداً عن مدينة تحتزم الخنجر النجراني وتحتمي بالصحراء والجبال التي وهبتها هاجس الحرية.. الحرية هوية إنسان المكان.
الراوية فاطمة أهدت الرواية إلى أهل الوادي.. أجدادها قائلة: «لتلك الأرواح التي غمرت المكان.. وأستودعته حكاياها.. إلى أجدادي الراحلين أهدي نبض الوادي وذاكرته».
وادي المؤمنين رواية شدتني كثيراً، كما ألهبت ذاكرتي نجران ذات يوم وبقيت مصلوباً لساعات أحدق في بقايا الرماد ونقش الصخور العظيمة لعوالم كانت هنا ثم ولت.
عمرو العامري - جدة