إن علاقة الإيديولوجيا بالفلسفة هي علاقة مهمة جدا لكونهما ظاهرتان تتمحوران حول المعرفة وتؤثران في الإنسان ومستقبله، فمتى تتأدلج الفلسفة ومتى تنأى بنفسها عن ارتداء الرداء الإيديولوجي وهل يمكن اختصار العلاقة بينهما في مضمون العبارة التي تتردد كثيراً لدينيس ديديرو: (لم يسبق لفيلسوف أن قتل رجل دين» مؤدلج» لكن رجل الدين « المؤدلج «قتل كثيرا من الفلاسفة) فالإيدلوجيا على ذلك هي فكرة قاتلة أو تؤدي إلى القتل في النهاية في حين الفلسفة هي فكرة مسالمة محبة في النهاية.
والحقيقة أن هذه العبارة ليست دقيقة كل الدقة فبعض الفلسفات قد تحولت إلى إيديولوجيات قاتلة قضى ضحية لها ملايين البشر، إن الإيديولوجيا لتتسرب إلى الأفكار وتؤدلجها، وهي تتسرب بسرعة إلى فكرة الدين، ثم الفكرة الفلسفية، ولئن كانت الفلسفة صعبة المراس ولا تسلم بالتحول إلى إيديولوجيا بيسر إلا أنها قد تتحول إلى إيديولوجيا بأسرع ما يتحول العلم فهي معرفة والمعرفة لاضابط من نظرية علمية أو عدة نظريات يحكمها بل المعرفة خاضعة للخطابات ولنظام توزيعها واستهلاكها في المجتمع ومن ثم فلكل مجتمع نظام معين للمعرفة ونظام معين للحقيقة كما أن الفلسفة تفكير في التفكير ولذا فالنقد جزء منها لذاتها ولغيرها، ومن ثم فهي بطبيعتها تنقض أدلجتها كل ما بدأت تتأدلج، ولكنها تتأدلج كلما ابتعدت عن المفاهيم واقتربت من تناول المفاهيم وتوظيف المفاهيم. ..
ولكننا إذا نظرنا إلى الميتافيزيقيا التي قامت عليها الفلسفة برمتها واستمرت حتى العصر الحديث حتى هايدغر وهوسرل و فريجه وفنجشتاين وبرتراند رسل ودريدا وفوكو فإننا سنحكم لأول وهلة على الفلسفة بأنها ليست إلا نمطاً من الإيديولوجيا وليس ما قام به أولئك الفلاسفة إلا نقض إيديولوجيا الفلسفة بأيديولوجيا بديلة.
بل إن نيتشة كان يرى قبل هؤلاء الفلاسفة الذي سبق ذكرهم أن الفلسفة إنما هي أكذوبة الإنسان المريض (الفيلسوف) حيث إننا لا نجد في كل عمل الفلاسفة سوى عملية أخلاقية قام فيها الفلاسفة بالرد على كل ما يمكن أن يكون خصوصياً ومختلفاً وعنيفاً يتضح ذلك من قيام الإغريق بصياغة عالم ساكن هو عالم المثل بدلا من العالم المتغير، ومن ثم على المؤرخ الحقيقي للفلسفة تحلل النظم الأخلاقية التي أنشأت الفلسفة وهيمنت عليها، كما يجب عليه ممارسة الشك والريبة والشبهة لأن الفيلسوف في نظر نيتشة ضعيف وكاذب، وهكذا فالفلسفة تعود أساساً إلى فردية الفيلسوف وذاتيته، بل إن الفيلسوف خبيث ضعيف يحاول أن يظهر ضعفه كفضيلة أخلاقية يريد أن يوصلها إلى مستوى الإطلاق فيفرضها على القوي ليتمكن من السيطرة عليه، فالتفكير إذن بحسب نيتشة هو التشهير بسوء نية الفيلسوف، وتقويض مجموع الميتافيزيقيا والفلسفة عن طريق العودة الأركولوجية والجينيولوجية للكشف عن خلفيات الفلسفة. وهيدجر هو أيضاً مثل نيتشة لا يعتبر الميتافيزيقيا فترة من فترة الفلسفة بل يربطها بتأريخ الفلسفة عموماً لأنها سيطرت على الفلسفة منذ الولادة حتى يومنا هذا وهو كنيتشة يعتبر أن الميتافيزيقيا هي التي جعلت الفلسفة تسيطر على الفكر (فتحي التريكي: تونس، 1989)
ولأن تلك الميتافيزقيا كانت سلطة على العقل والتأريخ والحقيقة والبحث في اختفاء سؤال الوجود الذي سقط في النسيان منذ المباعدة بين اللوغوس والفيزيس كما يقول على الحبيب الفريوي (2008، ببيروت) فإنها لا شك مثلت فضاء إيديولوجيميا كبيراً يمكن العودة إليه لإحياء إيديولوجيما أو سيطرة إيديولوجية متجسدة في بعض الأحيان تنفي وتقمع وتحاسب، ولكن كيف يمكن التخلص من ميتافيزيقيا أضحت كالجلد للإنسان. «وشملت كل ميادين الحياة» (Michel Haar,1994) يرى هايدغر: «أن الفضيحة الحقيقة للفلسفة تتمثل في اللاتساؤل النقدي لسلطوية ومركزية نظرية المعرفة في الفلسفة المعاصرة... لأن نظرية المعرفة امتزجت في ذاتها بنظام ميتافيزيقي دوغمائي مفترض «(Charles B. Guignon ,1983 نقلا عن حيدر علي سلامة)، وبحسب هايدغر يجب التمرن على الإنصات إلى نداء الوجود من داخل اللغة ومن خارج مبدأ الهوية وسلطة المنطق والتيولوجيا، إذ لا يمكن أن نتمثل مجاوزة الميتافيزيقيا إلا انطلاقاً من الميتافيزيقيا (على الحبيب الفريوي 2008، بيروت)، وقد تحولت الهايدغرية ذاتها إلى إيديولوجيا تبحث في مصير الغرب الذي يربط به مصير الوجود والذي أصبح مهدداً في كل لحظة بميتافيزيقيا التقنية التي سبقه إلى التنبيه من خطرها هوسرل ونراها تتجسد فيما بعد عند الفلاسفة ذوي النزعة الماركسية وفلاسفة مدرسة فرانكفورت وخصوصاً ماركوزة وهابرمس الذي يطلق عليها إيديولوجية التقنية.
ولكن هايدغر لا يعتقد في المجمل أن نهاية الميتافيزيقيا تعني معارضة مذهب بمذهب وفيلسوف بفيلسوف فتجاوز هيجل لكانت وماركس لهيجل وقلب نيتشة لفلسفة أفلاطون لاتؤكد التخلي النهائي عن محاولات سابقة وإنما يبقى الإنهاء للميتافيزيقيا محاولة مفتوحة للقراءة والتأويل... (على الحبيب الفريوي، بيروت).
ونتفق تمام الاتفاق مع فتحي التريكي الذي يقول: «لابد أن نلاحظ أن الظاهرة الأساسية للتحول الفلسفي الحالي الذي جاء بعد كانت، وبعد ماركس ونيتشة وهيدجر، تكمن في رفض وجود عقل واحد يكون عبارة عن أنموذج للتفكير ومحاكمة لأراء الفلاسفة وأعمالهم. فالممارسة الفلسفية الحالية قد تحررت من هذه النظرة الكلية ومن الإيديولوجيا التي تعتبر أن هناك طريقاً واحداً أوحد للحقيقة الواحدة المطلقة».
بيد أن الفكر التنويري في أوربا بتوجهه إلى النقد حتى أنه أطلق عليه عصر النقد وقد استعمل ذلك كانت في افتتاحية الطبعة الأولى من نقد العقل الخالص، وقد وصل ذلك إلى أن سمة النقد أصبحت هي المميز للفيلسوف وبمقتضى ذلك أصبح يوصف أديب كفولتير بأنه فيلسوف ،ثم إن فكر التنوير طغى عليه الجانب العملي ويمثل ما كانت تسميه مدرسة فرانكفورت بالعقل الأداتي أو الوسائلي ومن ثم كان ينظر إلى الأفكار لا بصفتها كيانات تجريدية بل بصفتها أسلحة من أجل النضال السياسي ومن ثم لم يكن السؤال لديهم حول جدة هذه الأسلحة بل حول ما إذا كانت فعالة كما يقول كاسيرير (انظر: عبدالرحمن بوقاف: الرباط، 2010)
ولكن بمحاولة الفلسفة الأوربية التخلص من الميتافيزيقيا القديمة(الإيديولوجيما) على مستوى فعل التفلسف لم تستطع أوروبا التخلص في أفق الفلسفة المتحولة إلى إيديولوجيا متجسدة التي تحولت فيها الماركسية إلى أضخم إيديولوجيا نافية للآخر ومنتهكة لكرامة الإنسان، كما تحولت فيها الليبرالية إلى رأسمالية إمبريالية ارتكبت كثيراً من الظلم والقتل ونهب الشعوب الأخرى.
نعم يمكن القول إن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى ما بعدنهاية الحرب الصامتة وحتى أفق العولمة والثورة المعلوماتية قد شهدت أوروبا عدة محاولات فلسفية للتخلص من تبعة الوضع الإيديولوجي وللانتقال إلى نقد الفلسفة وإلى نقد الذات وإلى دراسة الآخر بعيداً عن فيلولوجيا الاستعمارية كما انعطفت الفلسفة نحو مزيد من التغير باعتمادها على اللغة واللسانيات في فعل التفلسف، ولكن هل خرجت أوروبا فعلاً من الإيديولوجيا الفلسفية إذا فرضنا أنها خرجت من الإيديولوجيا المتجسدة؟
إن كانت بما قدمه من ذخيرة هائلة تمثلت في الواجب الإخلاقي لم تستطع إنقاذ أوروبا من الإيديولوجيا، ولكن الوصول إلى حافة الحقيقة وحافة العلم وحافة الفلسفة وحافة الهلاك وحافة النهايات، جعل فكر الحافات يعيد مراجعة نفسه من جديد فظهرت مدرسة فرانكفوت التي أسهمت فلسفيا في نقد واستشراف المستقبل للحضارة الغربية رغم أن هذه المدرسة إنما نشأت في كنف إيديولوجي ماركسي فهي تتفاخر في كونها أول وطن فكري للماركسية كمؤسسة أكاديمية. .. كما ظهرت بالتوازي الفينيوملوجيا والدراسات الخطابية وفلسفات ما بعد الحداثة، وهنا بدأت بالفعل تتبعد الفلسفة عن الإيديولوجيا بعداً بائناً، وانقسمت الفلسفة الأوربية من حيث ذلك إلى نوعين:
الأول وهو الأكثر: طغت عليه إيديولوجيا المركزية الأوربية (Eurocentrism) دون أن يعي أو حتى بوعي لتمثل الإيديولوجيا البديلة للنظر إلى كل ما حول أوروبا، وفي هذه الفلسفة يغيب الإنسان إلا الإنسان الأوربي وتغيب المفاهيم إلا مفاهيم أوروبا وتغيب القيم إلا بمقياس مركزية أوروبا. إنه نوع من الإيديولوجيا الصامتة والباردة جداً والمحرقة جداً ولم يستطع التخلص من هذه المركزية حتى سارتر بكل جهوده في إعلاء حرية الإنسان والدفاع عن القيم، وفوكو بكل تجرده في حفريات الخطاب، والثاني وهو الأقل حاول أن يعيد للتفلسف الإنساني بغض النظر عن المكان وعن الزمان ألقه ويجعل من الفلسفة حكمة للناس أجمعين وعرف كيف يتخلص من غشاء أدلجة المركزية الأوربية وكيف ينقدها وكيف يستثمر ما لدى الشعوب الأخرى في فعل التفلسف، ويمكن النظر إلى فلاسفة من هذا النوع الأخير كمثل برتراند راسل وكمثل إدوارد سعيد الذي كان ينبز بفيلسوف الإرهاب، وكمثل جيل دلوز الذي ينقد بعنف فلسفة التواصل الأوروبية ولا يراها سوى جهد في سبيل البحث عن رأي شمولي لبيرالي بل هي مجرد خداع جماعي يخفي وراءه كل ادعاءات الرأسمالية.
وللموازنة بين المركزية الأوربية في الناحية الفلسفية ننظر إلى محاورة الفيلسوفين هابرماس ودريدا حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر وكيف يظهر طغيان المركزية الأوربية عند هابرماس في النظر إلى القضية الفلسطينية ويظهر تلاشي هذه المركزية عند دريدا في نظره إلى القضية الفلسطينية وإلى القضايا الأخرى وإن كان دريدا لم يتخلص تماما من مركزية أوروبا إذ يعلق الأمل بأوروبا وحدها في إنقاذ العالم في كتيب حول هذه المسألة، وربما كان للحياة في الجزائر دوراً في تخفيف غلواء المركزية الأوربية عند دريدا، كما أنه ربما كان في تنظيره لمفهوم الضيافة بدلا من مفهوم التسامح المسيحي قد استفاد من هاجس الضيافة كقيمة عربية أكبر من إفادته من كانت في مثل هذا المفهوم. أقصد التنبه إلى أهمية المفهوم وليس فلسفة المفهوم ذاتها.
وبصفة عامة فإن الفلسفة الأوربية والغربية رغم بلوغها شأواً عظيماً في فعل التفلسف فإنها لما تزل تعاني من تسرب الإيديلوجيما إليها وإن كانت بقربها الحضاري من الأفق الدائم = الأفودائم (أفق ما فوق الإيديولوجيا) تكاد تكون من أبعد الفلسفات عن الإيديولوجيا ومن أكثرها فهماً ودراسة لها بغية التخلص منها.
د. جمعان عبدالكريم - الباحة