تتمثل في مشروع انطلقت نواته قبل أكثر من خمسة عقود، متمثلاً في مكتبة عامة أنشأها في الجوف الأمير عبد الرحمن السديري لتصبح بعد ذلك «دار الجوف للعلوم» التي تأسست رسمياً قبل ثلاثة عقود، وتضم أكثر من مئة وستين ألف كتاب، إضافة إلى المصادر السمعية والبصرية والوسائل الحديثة، مع الحرص على نشر الإصدارات العلمية والثقافية المتعلقة بالتاريخ والآثار.
وهي اليوم تنطلق عبر مركز عبد الرحمن السديري الثقافي، وكثيرون، وأنا أولهم، قد لا يعرفون الأثر الذي تسديه هذه المؤسسة الرائدة لأهل الجوف عبر المكتبة وما تضمه من مرافق، أو ما تقدمه من الأعمال، أو برامجها الثقافية والتدريبية.. وللأسف وسائل الإعلام لا تولي هذه الأعمال أهمية كبيرة، والأخبار المنشورة عن المؤسسة قليلة رغم أهميتها، كما أرى ويعكسها موقع المؤسسة عبر الإنترنت.
والذي يهمني هنا أثرها الذي يصل الساحة الثقافية والقراء المعنيين، ويتمثل في مجلة «الجوبة» الفصلية الرائدة، ومجلة «أدوماتو» ودراساتها التاريخية والآثارية، وهي نصف سنوية محكّمة حظيت باحترام وتقدير المتابعين.
«الجوبة» صدر منها قبل أيام العدد السادس والأربعون لتوالي عملها المتقن والخلاق في رفد الثقافة، وتكريس النصوص الأنيقة والدراسات النقدية المعاصرة بكل دأب وانتماء حقيقي للساحة ومتغيراتها دون أن تحدث جلبة كالتي تفعلها كثير من برامجنا ومجلاتنا التي تقدمها مؤسسات مترهلة ونمطية بعيدة عن القارئ.
«الجوبة» يرعاها فريق عمل محترف وواعٍ بما تقتضيه أصول صناعة مجلة ثقافية شمولية، بدءاً من التنوع في المحتوى مثل النصوص والدراسات والحوارات والملفات المتخصصة، وللمجلة إخراج فني مميز غير مبتذل ولا مأخوذ بالبهرجة الاستعراضية، ومع هذا وذاك تقدم بسعر رمزي لقارئ قد يعد نادراً أو نوعياً في ساحة توزيع المطبوعات العربية الحديثة.
أما «أدوماتو» ثاني أهم أعمال المؤسسة، فهي مجلة علمية فريدة حظيت باحترام القارئ المتخصص الشغوف بدراسات الجزيرة العربية وعمقها الحضاري، وصدر منها ثلاثون عدداً، لكنها لا تحظى بالرعاية التوزيعية التي تلقاها الجوبة، ربما لتخصصها الدقيق الذي يجعلها في عداد المجلات النوعية العميقة، وهي الثانية في المملكة بعد مجلة «العصور» العريقة التي أسداها للساحة الثقافية الأستاذ عبدالله الماجد عبر دار المريخ منذ عقود.
مؤسسة السديري وبرامجها ومجلاتها تبرهن على نجاح المبادرات الثقافية المدنية عندما تتخلص من نمطية العمل الرسمي، ولجانه، وشغفه بالدوران حول نفسه كما نرى في قطاعات الثقافة التي تُهدَر عليها الأموال دون عمل منتظم مسؤول!
والنجاح الذي نراه ماثلاً في هذه المؤسسة يدعو القطاعات المعنية إلى رفد المشاريع الأهلية المدنية في المجال البحثي والثقافي، وتسهيل منح التراخيص، وتخفيف وتيرة الرقابة، والحد من مبدأ «سد الذرائع» الذي يحاصر حياتنا العامة، ولم تسلم منه الساحة الثقافية ومبادرات الأفراد، ولا شيء يمكن أن تتباهى به المجتمعات أكثر من منجزاتها الثقافية والمعرفية ومراكزها البحثية والإعلامية التي تراعي أسس التنوع الثري، ودعم الإبداع والمبدعين، وإعلاء صوت المعرفة ومنتجات العقل.
والكل يتذكر أن كثيراً من التجارب المؤسسية في البلاد انطلقت بمبادرات فردية مدنية، وأدت أثراً واضحاً رصدته الدراسات التاريخية والأدبية، ومن ذلك تجربة مجلة «المنهل»، و»العرب»، و»عالم الكتب» ومجلات أخرى توقفت بكل أسف، والصالونات الثقافية هي الأخرى مبادرات فردية مدنية، وبعضها أدى أثراً ريادياً، والأشكال الحديثة المتاحة عبر الوسيط الإلكتروني مدنية بامتياز أيضاً، وأظن الرهان عليها أجدى وأنفع وأشمل في هذا الزمان.
محمد المنقري - جدة