يقول الدكتور معجب الزهراني؛ «حينما لا تساعد الثقافة البشر على البحث عن المزيد من المعرفة والمزيد من الذوق الجماعي والمزيد من الصدق مع الذات والمزيد من حسن التعامل مع الآخر والعلم والمزيد من العمل الجدي الخلاق.. تصبح الثقافة ضد الانسان».
ومن هذا المنطلق العميق في الوعي يمكن قراءة تجربة الزهراني التي تتوزع ثقافيا وإبداعيا في مجالات مختلفة أبرزها النقد والشعر والرواية. ومن هنا أيضا يمكن قراءة تفاصيل تجربته تلك في كل معطياتها اللاحقة، ومن خلال قراءة كهذه نستطيع رصد الكثير من صور المعرفة والذوق الجماعي والصدق مع الذات وحسن التعامل مع الآخر والعمل الجدي الخلاق ليس في التجربة المتعددة المناحي وحسب بل أيضاً في الشخصية ككل. ولذلك وبشكل شخصي على الأقل كنت دائما أنظر للدكتور الزهراني بعيداً عن وطأة المعرفة الشخصية أيضاً، باعتباره نموذجاً للمثقف الخلاق والقادر على توظيف ثقافته ذات المنمنمات المتعددة في خدمة الثقافة العربية العامة ورفدها بهذا الشكل الموسوعي للمعرفة أيضاً وتأطيرها في إطار اخلاقي وإنساني لا يتكرر كثيراً.
وإذا كان كثيرون ممن يعرفون الزهراني باعتباره ناقداً أدبياً من الطراز الأول قضى جل وقته في السنوات الأخيرة في ممارسة النقد الأدبي على الصعيد الأكاديمي تحديداً، قد استغربوا عندما صدرت له روايته الأولى «رقصة» قبل سنوات قليلة، فإنني شخصياً لم أستغرب ذلك ولم أفاجأ بها أو أندهش لا بخبر صدورها ولا بمستواها أيضاً. لأسباب كثيرة، فقد كنت دائماً معجبة بذلك العقل النقدي المتقد الذي يعمل بحيوية وشغف بالحياة وخياراتها المتعددة تحت كل الظروف، وتجاه كل شيء بداية من الذات وانتهاء بالعالم.
يصدر هذا المبدع المستكين لإملاءات الإبداع وحدها روايته الوحيدة، حتى الآن، بمثل أفريقي يقول؛ «من يتكلم سيغني.. ومن يمشي لا بد أن يرقص»، وكأنه بهذا التصدير البليغ يبرر سبب إقدامه على كتابة روايته وهو الذي عرف أساساً كناقد، رغم أنه لا يحتاج لمثل هذا التبرير ذلك أنه كان حتى في ممارساته النقدية يبدو روائياً وشاعراً من الطراز الأول ليس في قراءته للنصوص الإبداعية نقديا وحسب ولكن أيضاً في كتابته لرؤاه النقدية بتلك اللغة ذات الحساسية الشعرية الشفيفة والبلاغة العالية.
عرفت الدكتور معجب الزهراني لأول مرة ربما قبل عقدين من الزمان في إطار مشاركته النقدية في إحدى الملتقيات الأدبية في الكويت، ومنذ ذلك التاريخ بدأت برصد تجربته تدريجيا وعفوياً أيضاً في إطار من الاهتمامات المشتركة.
ومن خلال ذلك الرصد أستطيع التأكيد على أنه الزهراني الآن أحد أهم الأسماء التي أنجبتها مسيرة النقد العربي في العقود الماضية ولعله ورفاقه من النقاد السعوديين تحديدا ساهموا بفاعلية في تجديد الخطاب النقدي للنصوص الإبداعية العربية تطبيقيا أكثر من غيرها، وراهنوا على الراهن الإبداعي كما لم يفعل غيرهم بكل هذه الحماسة والتفاؤل وأيضاً الدأب والجلد، وهو ما تبدى واضحاً وجلياً في كتابته لرواية «رقص» التي استدعى فيها الذاكرة الفردية في مقابل الذاكرة الجمعية وجدل من الوشائج بينهما بناء روائياً معمارياً متصاعداً كتصاعد الأغاني القديمة في صدور الجالسين يحتسون قهوة النوستالجيا في «مقاهي الرحيل» البعيدة.. تماماً كما انتهى معجب الزهراني جالساً ذات الجلسة يوم الخامس عشر من سبتمبر إذ وضع النقطة الأخيرة في نهاية السطر الأخير من رقصته الروائية في مقهى رحيل باريسي!
- سعدية مفرح