نواصل ترجمتنا لدراسة البروفيسور تامر مصطفى المنشورة في فبراير 2000 والتي ستشكل أحد فصول كتابي المترجم «الأزهر والسياسة» الذي لا يزال تحت الترجمة:
وجاءت أكبر عمليات التوغل الحكومية في المؤسسات الدينية في مصر بشكل عام والأزهر بشكل خاص بعد انقلاب الضباط الأحرار عام 1952؛ فقد أدرك زعيم مصر الجديد، جمال عبد الناصر، أهمية السيطرة على الأزهر من أجل ضمان السيطرة الداخلية وتعزيز أهداف السياسة الخارجية. ففي داخل مصر، أراد عبد الناصر أن يضفي الأزهر الشرعية على نظامه وبرنامجه لتحويل المجتمع المصري نحو الأيديولوجية الاشتراكية. وكان إخضاع الأزهر للدولة أيضا من شأنه أن يسمح لناصر بصنع توازن مع نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في المجتمع والتي هددت بتحريك المصريين ضد الحكومة. أكثر من ذلك، لقد كان ناصر يدرك أن نفوذ الأزهر يمتد كثيرا إلى ما وراء حدود مصر، وأن سيطرة الدولة على المؤسسة الأكثر احتراما وتأثيرا لتدريس العلوم الإسلامية سيكون أداة هامة في تعزيز قيادة مصر للدول العربية والإسلامية.
وتماما كما فعل محمد علي باشا قبل أكثر من قرن من الزمان، حاول ناصر أولا تقويض نفوذ العلماء من خلال قانون الإصلاح الزراعي لعام 1952. لقد وضع هذا القانون جميع الأراضي الوقفية - التي ارتفعت إلى 12% من جميع الأراضي الصالحة للزراعة منذ حكم محمد علي - تحت سيطرة وزارة جديدة للأوقاف (9). ومن خلال السيطرة على أراضي الوقف، اكتسبت الحكومة سلطة توزيع موارد الوقف والقدرة على مكافأة أولئك الذين يطيعون الحكومة ومعاقبة أولئك الذين يخالفونها. وفي عام 1955، ألغى ناصر جميع المحاكم الشرعية، التي كانت تعمل بالتوازي مع المحاكم العلمانية التي أنشأها محمد علي في القرن التاسع عشر (10). وهكذا، كان الضباط الأحرار يواصلون، مجددا، نضال محمد علي لكسر استقلالية المؤسسات الدينية في مصر والاستيلاء على مواردها لخدمة مصالح الدولة.
وجاءت محاولة عبد الناصر الأكثر طموحا لتوطيد هيمنة الدولة على الأزهر عبر قانون عام 1961 (مشروع تطوير/ تحديث الأزهر)، الذي أعاد تنظيم الأزهر بصورة جذرية (11). إعادة تنظيم الأزهر جعلته يتبع رسميا وزارة الأوقاف. وأصبحت جميع موارد الأزهر المالية تمر عبر قنوات الدولة الملائمة؛ وهو ما أعطى المسؤولين في الدولة تأثيرا هائلا على مهام الأزهر. وبموجب قانون عام 1961، حصل الرئيس المصري ووزير الأوقاف أيضا على اختصاصات رسمية حول مسائل هامة، أبرزها تعيين شيخ الأزهر. وبالإضافة إلى ذلك، أعيد تشكيل المجلس الأعلى للأزهر، ليشمل ثلاثة «خبراء في التعليم الجامعي» عينتهم الحكومة مع ممثلين من وزارات الأوقاف والتعليم والعدل والمالية (12). وأخيرا، أدت إعادة تنظيم الأزهر، عبر قانون 1961، إلى توسيع مجال التعليم الأزهري توسيعا هائلا؛ من ثلاث كليات فقط (أصول الدين واللغة العربية والشريعة)، ليشمل العديد من الكليات العلمانية مثل الطب والقانون والهندسة. وأدى هذا التوسع القسري للأزهر، في مجالات دراسة علمانية (غير دينية)، إلى أن يدخل عمداء يمثلون مجالات غير دينية في المجلس الأعلى للأزهر. ولذلك كان تأثير إعادة تنظيم الأزهر عميقا وهائلا؛ فقد تحوّل الأزهر من مؤسسة صغيرة تتمتع بدرجة عالية من الاستقلال عن الحكومة إلى مؤسسة كبيرة ذات استقلالية ضعيفة جدا.
واُستقبل قانون عام 1961 لإعادة تنظيم الأزهر بمعارضة قوية من داخل الأزهر. وأثناء تنفيذ القانون، اُضطر ناصر لتعيين مجموعة من الضباط من القوات المسلحة كمديرين مؤقتين لإدارة الأزهر (13). وفي حين لا يتوفر سوى القليل جدا من المعلومات عن ظروف المعارضة لتدخل الحكومة في الأزهر، فمن الواضح أن مهمة هؤلاء المديرين العسكريين كانت تتمثل في إزالة أية مقاومة لسيطرة الحكومة. ونتيجة لتلك الخطوة، فقد انخفض عدد أعضاء هيئة التدريس في الأزهر من 298 إلى 215، خلال الفترة من 1959 إلى 1963 (14). ويمكن أن نخمن أن هؤلاء الـ83 عالما الذين طُردوا كانوا الأكثر صخبا في معارضتهم للحكومة (15).
أكثر من ذلك، شكّل القانون رقم 818 لعام 1963 لجانا جرى تصميمها لتطهير الأزهر من جميع أعضاء هيئة التدريس المعارضين لبرامج نظام عبد الناصر التحديثية. ومن عام 1963 إلى عام 1968، طردت هذه اللجان 45 عالما إسلاميا أزهريا، لينخفض عدد أعضاء هيئة التدريس من 215 إلى 170 فقط. وأشار الباحث آرثر كريس إكسل إلى أنه، بحلول عام 1975، كانت هُوية كليات الأزهر قد تغيّرت بالكامل تقريبا؛ فقد استبدلت بالغالبية العظمى من العلماء الذين تلقوا تعليمهم قبل ثورة عام 1952 أعضاء هيئة تدريس أصغر سنا، وتحديدا من الذين تلقوا دراستهم في الستينيات والسبعينيات بعد تنفيذ برنامج ناصر لتحديث الأزهر.
وبالإضافة إلى أشكال قسر أكثر علنية، نفذت الحكومة إصلاحات عبر استغلال الانقسامات الأيديولوجية الموجودة بين علماء الأزهر منذ سنوات. لقد صنعت الحكومة تحالفات مع شيوخ تقدميين من الذين يريدون إصلاح الأزهر؛ حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن استقلاله. ومن بين الذين تعاونوا مع الحكومة نجد د. محمدا البهي الذي عيّن لاحقا وزيرا للأوقاف ومديرا لشؤون الأزهر. وبالمثل، استغلت الحكومة الخصومات الشخصية بين مشايخ الأزهر، وصنعت تحالفات مع شيوخ انتهازيين يسعون إلى مناصب عليا داخل الأزهر (16).
ومع أن العديد من علماء الأزهر كرهوا زيادة السيطرة الحكومية على هذه المؤسسة الدينية وتقليص استقلاليتها، إلا أن الأزهر كسب موارد مالية كبيرة نتيجة لهذه العملية. ففي الفترة من 1952 إلى 1966 وحدها، تضاعفت ميزانية الأزهر أكثر من أربع مرات، من 1.5 إلى 7 ملايين جنيه مصري. وسمح هذا الدعم المالي من الدولة للأزهر بمضاعفة عدد طلابه، وزيادة رواتب علمائه، وتقديم المزيد من المنح الدراسية للطلاب الأجانب، وزيادة عدد بعثاته إلى الخارج في جميع أنحاء أفريقيا وآسيا «سبعة أضعاف» (17). وبالإضافة إلى ذلك، سمحت الزيادات في الميزانية للأزهر بتنفيذ مشاريع رأسمالية ضخمة؛ مثل بناء الحرم الجامعي الجديد في مدينة نصر، وتوسيع برنامجه الوطني للتعليم الابتدائي والثانوي.
وعبر إعادة تنظيم (إصلاح أو تطوير أو تحديث) الأزهر عام 1961 وعمليات التطهير اللاحقة لأعضاء هيئة التدريس بالأزهر المعارضين للتحديث، ضمن ناصر تأييد إحدى أهم المؤسسات الإسلامية العلمية. واستخدم ناصر نفوذه الجديد على الأزهر لاستصدار فتاوى تدعم سياسات نظامه الاشتراكية، وخاصة لإضفاء الشرعية على قانون الإصلاح الزراعي. وبعد تأمين صدور هذه الفتاوى من الأزهر، أنشأ ناصر «المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية»، والذي كان ينبغي عليه تأكيد العلاقة المفترضة بين الإسلام والاشتراكية. وكانت نشرة المجلس الأعلى، «منبر الإسلام»، تنشر مواد مثل: «الاشتراكية والإسلام» و«الميثاق الوطني قضية إسلامية» (18).
كما استخدم ناصر، أيضا، الفتاوى لتحقيق أهداف سياسته الخارجية في العالم العربي والإسلامي. وفي سياق التنافس بين عبد الناصر والملك فيصل عاهل المملكة العربية السعودية طوال الستينيات، استخدم ناصر فتاوى الأزهر لإضفاء الشرعية على سياساته وتحريك مشاعر المواطنين السعوديين ضد حكومتهم. وبث نظام عبد الناصر نداءات مماثلة في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي، عبر برامج إذاعة «صوت العرب». وبحلول عام 1963، كانت إذاعة «صوت العرب» تبث بأربع وعشرين لغة، بمجموع 755 ساعة من البث أسبوعيا. (19) وفي جهد مماثل، قدم ناصر منحا دراسية لطلاب من جميع أنحاء العالم الإسلامي للدراسة في الأزهر، من أجل توثيق علاقات تلك الجامعة مع المؤسسات الدينية الدولية الأخرى وتعزيز نفوذها الدولي.
كما واصل أنور السادات (1970-1981) وحسني مبارك (1981 إلى الآن أي تاريخ نشر الدراسة عام 2000) سياسة ناصر، عبر الاستفادة من نفوذهم على الأزهر لاستصدار فتاوى تدعم مختلف سياساتهم. فعلى سبيل المثال، نجح السادات في استصدار فتاوى تبرر الانقلاب على برنامج الإصلاح الزراعي الناصري، وفتاوى تشرعن سياسة «الانفتاح» الساداتية (أي التحرر السياسي والاقتصادي)، والأهم من ذلك، استصدار فتوى صادقت على معاهدة السلام مع إسرائيل في مارس 1979 (20). واستصدر مبارك - بدوره - فتاوى من الأزهر لإضفاء الشرعية على مشاركة مصر في حرب الخليج الثانية (21) وشجب الحركات الإسلاموية، خاصة بعد موجة أعمال العنف التي بدأت في عام 1992.
** ** **
هوامش المترجم:
(*): في الحقيقة، جرى دمج المحاكم الشرعية مع المحاكم المدنية التي تحكم بالقانون الوضعي. (العيسى)
ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب
Hamad.aleisa@gmail.com