1- الكتاب :
1.1- العنوان والموضوع:
صدر عن جامعة الملك سعود ( كرسي الدكتور عبد العزيز المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها) كتابٌ هامٌّ جديد هذا العام ( 1436هـ - 2015م) بعنوان « معجم مطبوعات التراث في المملكة العربية السعودية « من تأليف الأستاذ الدكتور أحمد بن محمد الضبيب. ويقع الكتاب في ثمانية مجلدات من القطع الكبير تضم 2532 صفحة، بطباعة فاخرة وتجليد معتبر وإخراج بديع. ويشتمل الكتاب على وصفٍ دقيق لـ 2984 كتاباً من كتب التراث التي طُبعت في المملكة العربية السعودية، منذ دخول الطباعة في مكة المكرمة سنة 1300ه - 1883م وحتى الانتهاء من تأليف الكتاب سنة 1434ه - 2013م.
يقول الأستاذ الدكتور عبد العزيز المانع، المشرف على الكرسي: « إننا نأمل ونسعى لأن يكون هذا الإصدار وما سيتبعه - بإذن الله - من إصدارات، مما يعزِّز من المكانة العلمية لجامعة الملك سعود وهي تبادر إلى تحقيق إنجاز مرموق في تجسيد معايير الجودة العلمية.»(1) وسنرى في الصفحات القليلة القادمة أن هذا الكتاب المرموق يمتاز بأعلى مواصفات الجودة العلمية، ويحقِّق هدفه النبيل في خدمة التراث العربي، وتطوير الدراسات المكتبية، وترقية الفهرسة العربية، وتيسير البحث العلمي في الوطن العربي.
1.2- فوائد المعجم:
إن فهارس الكتب ذات منافع جمة للباحثين، ولهذا توليها المكتبات ومراكز البحوث عنايةً كبرى. ويمكن إجمال فوائد هذا المعجم بأربع:
أ - يدل الباحث في قضايا التراث على المصادر المطبوعة في السعودية.
ب - يمكِّن الباحث من اختيار المراجع المتعلِّقة ببحثه، لأنه يصفها بدقة.
ج - يساعد الباحث على التثبُّت من معلومات معينة، أو استكمالها أو تصحيحها.
د - يوفِّر للباحث كثيراً من الوقت والجهد، ويساعده على تحقيق الشمولية والدقة (2) .
1.3- معجم أو فهرس أو ببليوغرافيا:
بادئ ذي بدء، يلاحظ القارئُ النبيه أن كلمة ( معجم ) في عنوان الكتاب قد استُعملت بصورة تختلف عن استعمالها المعتاد الذي يشير إليه تعريف كلمة ( معجم ) في الدراسات والمعاجم المنشورة ورقياً أو على الشابكة ( الإنترنت). ففي « المعجم الوسيط « الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، يرد تعريف كلمة (معجم) على الوجه التالي:
« المعجم : ديوان لمفردات اللغة مرتب على حروف المعجم. جمعه: معجمات ومعاجم. وحروف المعجم : حروف الهجاء.» انتهى (3).
وعندما يلجأ القارئ النبيه إلى البحث عن تعريف المعجم في الشابكة، يلفي أن التعريف الشائع هو كالآتي أو ما يشابهه:
« المعجم هو كتاب يرتِّب مفردات اللغة على حروف الهجاء، ويبين معانيها واستعمالاتها، ويضبط أصولها وأبنيتها ومشتقاتها»(4).
إن هذين التعريفيْن قد يصدقان على بعض المعاجم، ولكنهما لا ينطبقان على بعضها الآخر. ومن مواصفات التعريف الجيد أن يكون « جامعاً مانعاً». فمثل هذين التعريفيْن لا يصدقان على معاجم كثيرة مثل « معجم الصحابة « (5) للمحدّث البغدادي الشهير أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي (214- 317هـ - 830 ـ 929م) الذي استخدم كلمة « معجم» في علوم الحديث قبل أن يستخدمها علماء اللغة بفترة طويلة. كما أن هذين التعريفيْن لا ينطبقان على « الأعلام: قاموس تراجم « لخير الدين الزركلي(6)، ولا على « معجم الاستشهادات» لعلي القاسمي(7)، ولا على «معجم الرموز» (8)، ولا على « معجم الأفلام السينمائية»(9)، ولا على كتب كثيرة تحمل كلمة « معجم» في عناوينها؛ إضافة إلى أن بعض المعاجم لا ترتب مداخلها على حروف المعجم، بل على الموضوعات أو على المنظومات المفهومية، أو غيرهما.
وفي أثناء اشتغالي على تصنيف «معجم الاستشهادات»، لاحظتُ تلك المشكلة؛ فتقدَّمتُ إلى المؤتمر الخامس للجمعية المعجمية الأوربية الذي انعقد في (جامعة تمبره) بفنلندة سنة 1992، بدراسةٍ اقترحتُ فيها على المؤتمر أن يتبنّى تعريفاً جديداً للفظ « معجم» ينطبق على جميع أنواع المعاجم، وهو:
« المعجمُ كتابٌ يضمُّ ألفاظاً مرتَّبة وفق نظامٍ معيّن، مع معلومات تتعلّق بها، باللغة ذاتها أو بلغة أخرى.»
والمقصودُ بالكتابِ الكتابُ المخطوط أو المطبوع أو المحوسب؛ وباللفظ ما يلفَظ من حرف أو فعل أو اسمٍ، عامٍّ أو خاصٍّ، بسيطٍ أو مركَّب ؛ وبالترتيب المعيَّن ما يرتضيه المؤلِّف من ترتيبٍ صوتي أو أبجدي أو ألفبائي أو موضوعي أو مفهومي أو غيره ملائمٍ لأغراض المعجم، ويوضّح أُسسه في المقدّمة. أما المعلومات التي تتعلّق بالألفاظ المرتبة، فتختلف من معجمٍ إلى آخر حسب موضوعه وغرضه.
بعد مناقشة الدراسة والاقتراح وافق المؤتمر على الاقتراح، ونشر الدراسة في سجلِّه (10) كما ضمّن الدكتور هارتمان التعريف الجديد في كتابه المرجعي» معجم المعجمية « (11).
وهكذا فـ «معجم مط بوعات التراث في المملكة العربية السعودية» يدلُّ على كتاب يرتِّب كتب التراث المطبوعة في المملكة وفق ترتيبٍ معيَّن، ويصفها بشكل وافٍ يفيد منه الباحث فوائد عديدة ذكرناها.
بيدَ أن المؤلِّف الفاضل سرعان ما يستخدم في مقدِّمته لفظيْن آخرين بمثابة مرادفٍ لكلمة « معجم « التي وردت في العنوان. وهذان اللفظان هما « الفهرس أو الفهرست « و « الببليوغرافيا». وقد دخل هذان اللفظان إلى اللغة العربية على سبيل الاقتراض اللغوي في عصريْن مختلفيْن. فـلفظ « الفهرس - الفهرست» دخل إلى اللغة العربية خلال العصر العباسي قادماً من اللغة الفارسية. ولعلَّ أشهر كتابٍ يحمل في عنوانه هذا اللفظ هو كتاب « الفهرست» لابن النديم ( ت 438هـ - 1047م) ، وقد يكون ابن النديم أول من استعمله بالعربية. أما لفظ « الببليوغرافيا « فقد دخل، في العصر الحديث، من الإغريقية القديمة عن طريق اللغات الأوربية، خاصة الإنكليزية والفرنسية، ويستعمَل بغزارة في العربية المعاصرة، كما في كتاب « الببلوجرافيا الوطنية السعودية».
ولعلَّ كثيراً من الكتّاب والقراء الحريصين على « نقاء « اللغة العربية، يتردَّدون في استخدام هذين اللفظيْن « الأجنبييْن» ويفضّلون استعمال كلمة « المعجم» ذات الأصل العربي الصريح. بيدَ أني أود أن أطمئنهم بأنه لا ضير من استخدام الألفاظ المقترضة من أية لغة أخرى بضوابط معلومة، لا لأن الاقتراض وسيلةٌ طبيعية لتنمية اللغة وأن اللفظ المقترض سرعان ما يصبح بالاستعمال جزءاً من اللغة المستقبِلة فحسب، بل لأن جميع اللغات البشرية هي ذات أصل عربي كذلك. فقد نشرت الجمعية الأمريكية للجينات البشرية في دوريتها العلمية « المجلة الأمريكية للجينات البشرية» مؤخراً ( في عددها الصادر في شهر فبراير - شباط 2012م) بحثاً علمياً اضطلع به علماء من جامعة ليدز البريطانية وجامعة بورتو البرتغالية واستغرق سنوات طويلة، واعتمد على بحوث دقيقة في الحمض البشري والخلايا، وتوصل إلى أن الإنسان العاقل ( Homo Sapiens) قد نشأ وترعرع في شبه الجزيرة العربية؛ وقبل حوالي 60.000 سنة، أخذت موجات بشرية واسعة تهاجر من جزيرتنا إلى آسيا شرقاً، وإلى أوربا شمالاً عن طريق الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا(12).
وقد نشرت مجلة لوبوان Le Point الفرنسية ( في عددها الصادر بتاريخ 5 - 2 - 2012) نتائج هذا البحث المذهل بمقال للأستاذ فردريك ليوينو بعنوان « نحن جميعاً عرب» قال فيه: « نحن جميعاً، سواء كنا فرنسيين أو أمريكيين أو صينيين أو من الإسكيمو، من سلالة واحدة نشأت وانتشرت في الجزيرة العربية.» (13).
ومعروف أن هجرة اللسان هي من هجرة الإنسان، والنتيجة المنطقية لهذا الكشف العلمي أن جميع اللغات البشرية هي ذات أصلٍ عربي؛ وتعرَّض هذا الأصل لعوامل الجغرافية الثقافية والمناخية فاختلفت الألسن. وثمة علم يُعنى بتأصيل الألفاظ وردِّها إلى أصولها التي نتجت عنها بالاشتقاق أو الاقتراض، ويُسمَّى باللغات الأوربية بـ (الإيتمولوجيا) Etymology (E) - Etymologie(F) . ويعود الفضل إلى اللساني الأديب العراقي عبد الحق فاضل (ت 1413ه - 1992م) في تعريب هذا المصطلح. ولكنه رأى أن لمفهومه مستوييْن: ( التأثيل) و ( الترسيس). فالتأثيل هو ردّ الكلمة إلى أمِّها المباشرة أو جدتها المباشرة أو القريبة. أما الترسيس فهو إعادة الكلمة إلى جدَّتها الأولى - حواء - في صورتها التي نطق بها أول إنسان. بيدَ أن أدواتنا العلمية المتوافرة حالياً لا تسمح لنا بالترسيس (14).
ولنضرب مثلاً على الفرق بين التأثيل والترسيس في تأصيل كلمة ( ببليوغرافيا). فعلى مستوى التأثيل نقول باختصار: إن اللغة العربية اقترضت هذه الكلمة في العصر الحديث، من الإنكليزية، التي اقترضتها بدورها من اللاتينية التي استعارتها من اللغة اليونانية، وهي منحوتة من كلمتين يونانيتيْن هما : الأولى Biblion ومعناها كُتيِّب ، والثانية Graphia بمعنى النسخ أو الكتابة، فيكون المعنى الكلي (نسخ الكتب أو كتابة الكتب)، وتحوَّل معنى هذه الكلمة في القرن الثامن عشر الميلادي في أوربا إلى ( الكتابة عن الكتب أو وصف الكتب). أما على مستوى الترسيس، فينبغي أن نواصل القول: إن كلمة Biblion هي تصغير Biblios وهو ورق البردي المصري الذي كان يستورده الإغريق من مدينة Byblos الفينيقية ( وهي اليوم مدينة جبيل في لبنان ). ولم يستورد الإغريق الورق من تلك المدينة العروبية الفنينقية فحسب ، بل تعلموا الكتابة نفسها من الفينيقيين ؛ فما الأبجدية اليونانية ( ألفا، بتا، جاما، دلتا، إلخ.) إلا أسماء الحروف الفينيقية ( الأليف، البيت، الجمل، الدلو، إلخ.) . وحتى ترتيب الحروف اللاتينية المستعملة في اللغات الأوربية والموروثة من الإغريقية هو نفس ترتيب الحروف الفينينقة, ف- K L M N ، مثلاً، هو ( كلمن)، وهكذا.
وخلاصة القول إنه لا تثريب على المؤلِّف الكريم أن يستعمل كلمات (معجم) و (ببليو غرافيا) و (فهرس) بوصفها مترادفات؛ والاستعمال عبر الزمن الآتي هو الذي يقرّر انقراض بعض هذه الألفاظ المترادفة، أو تخصيص معاني بعضها، أو بقائها جميعاً.
2- المؤلِّف :
2.1- الدكتور أحمد الضبيب:
إن معجماً بمثل هذا الثراء والدقة والشمول، يستغرق تصنيفه سنواتٍ طوالاً، ويتطلَّب جهداً جباراً، ويستلزم، فوق هذا وذاك، أن يضطلع به عالمٌ يتحلّى بروحٍ وطنيةٍ عالية، ومعرفةٍ عريضة، وخبرةٍ مكتبيةٍ معمَّقة، وشغفٍ نادرٍ بالعِلم، يُمدُّه بالصبر والجلَد، ويُعينه على البحث والتحقيق، والتثبُّت والتدقيق.
وقد تجمّعت كل تلك الخصال الحميدة لمؤلِّف هذا الكتاب، فقد درس الضبيب في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة القاهرة، فتتلمذ على مشاهير علمائها مثل : طه حسين وشوقي ضيف، وسهير القلماوي، وحسين نصار، وعبد العزيز الأهواني، ومحمد كامل حسين، وغيرهم من الفطاحل؛ ونال الشهادة الجامعية سنة 1380ه - 1960 م، ورحل في طلب العلم إلى بريطانيا والتحق بقسم اللغات السامية في جامعة ليدز التي ذكرتُ بعض صولاتها العلمية قبل قليل، ونال شهادة الدكتوراه منها سنة 1368ه - 1966م، فانضمَّ على إثرها إلى السلك الأكاديمي في جامعة الملك سعود بالرياض وتدرَّج فيه حتى نال رتبة الأُستاذية.
وفي الوقت ذاته، عمل في الإدارة الجامعية بجامعة الملك سعود، فاختير رئيساً لقسم اللغة العربية؛ ثم عميداً لشؤون المكتبات ( وفي عهده ازدهرت المكتبات الجامعية، ونظَّمَ أول معرضٍ دولي للكتاب، وأَطلقَ مطبوعات الجامعة، وكان الكتاب الذي حمل رقم 1 في السلسلة اللغوية من هذه المطبوعات هو كتاب « لهجات شرقي الجزيرة العربية» من تأليف اللمستشرق البريطاني جونستن وترجمة العميد الضبيب نفسه، وأنا لا أنسى ذلك، لأن كتابي « علم اللغة وصناعة المعجم» حمل الرقم 2 في تلك السلسلةً)؛ ثم وكيلاً للجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي؛ وتُوّجت مسيرته الإدارية الجامعية بإسناد منصب مدير جامعة الملك سعود إليه. وفي تلك الأثناء، كان الضبيب أحد فرسان المجامع اللغوية والعلمية العربية في بغداد ودمشق والرباط والقاهرة، مجلّياً في حلباتها العلمية ومؤتمراتها الأكاديمية بما يقدِّمه من دراساتٍ رصينة وبحوثٍ مجدِّدة. وهو اليوم رئيس مجلس أمناء مؤسَّسة حمد الجاسر ورئيس تحرير مجلة «العرب» التي أسسها علامة الجزيرة حمد الجاسر، رحمه الله، وعضواً في عددٍ كبير من المجالس العلمية.
يتبع..
د. علي القاسمي - الرباط