في العام 1985 نزل إلى أسواق الفيديو - للدول التي لا صالات سينما فيها! - فيلم (الحدود) بطولة وإخراج الفنان السوري الكبير دريد لحام، من تأليف وسيناريو وحوار الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط؛ وكان العرض السينمائي الأول للفيلم قبل ذلك بعامين. وفي العام نفسه 1985 نشر الأديب السعودي الراحل سليمان الحماد قصة (الهويّة) ضمن مجموعته القصصية الصادرة في الرياض (حدث في الزمن الأخير).
فيلم (الحدود) كان أحد أشهر الأفلام العربية في ذلك الزمن، وكان بمثابة أوّل عمل سينمائي عربي يطرح قضية (الهوية) بتلك الطريقة الدرامية الساخرة الصادمة التي جعلت المشاهد يضحك ويبكي ويتلمّس هويّته في مشهد يجمع ما بين الفكاهة والحشرجة في تجاذب طرفي الأمل واليأس.. الشجاعة والخوف.. الكرامة كلها والذلّ كله في آن.
وقصة (الهوية) كانت أول قصة محلية، في بلد كان المنتمون إليه ينعمون بوثيقة هوية جذّابة تجعل من جوازات أسفارهم – كسيّاح مترفين – بمثابة (المفتاح السحري) لكل الأبواب.. فجاءت هذه القصة في هدوء فرضته عليها موجة ما نحسبها (حداثة) بكل ضجيجها في تلك المرحلة من عمر ثقافتنا المحلية، لتلامس أهوال (الحدود) ما بين الدول بمقاربة فكرية تزن الهويّة وتختبرها لأزمنة قادمة لم نكن نتوقعها، وتضع الأصابع على الجراح مصرّحة بالصرخة الصادقة في وجه الكارثة الحقيقية؛ من دون أن يلتفت إلى كل ذلك أحد!
في الفيلم يفقد سائق التاكسي جواز سفره (هويته) في المنطقة الحدودية الفاصلة بين دولتي شرقستان وغربستان، ويبقى هناك معلقاً تراوده محاولات التسلل شرقاً أو غرباً وتنتهي كل مرة بالفشل ثم التعاطف من بعض المحيطين به.. مثل عسكر الحدود من الجهتين أو أصحاب السيارات المتنقلة بين الدولتين.. حتى تمكّن من استيطان تلك المنطقة بخيمة جعلها استراحة للمسافرين المتعبين ومتنفساً للمجندين المكبوتين!
وفي القصة يغامر سائحٌ قادم من دولة (الوادي الأخضر) إلى إحدى الدول المجاورة بالذهاب منها إلى دولة مجاورة لها من أجل قضاء ليلة سمر في صحبة صديق تعرف عليه هناك، وقد استطاع العبور من الحدود بين الدولتين بالحصول على (ورقة مرور) مدفوعة الأجر.. ثم في غفلة السهرة الصاخبة بالأغاني الراقصة يفقد تلك الورقة وجواز سفره وكل ما يتعلق به من أوراق ثبوتية وهو في الدولة التي لم تكن وجهته الأساسية ولا يعرف أحداً فيها.. وحين حاول الرجوع إلى الدولة التي ذهب أساساً للسياحة فيها دار بينه وبين العسكر على (الحدود) هذا الحوار المقتطف من القصة:
قال له رجل الأمن، يستجوبه: من أي البلاد أنت؟ أجاب: من الوادي الأخضر. وكيف وصلت إلى هنا، ولا سفارة لبلادك عندنا؟! أجاب: بورقة مرور استخرجتها من سفارتكم في الدولة المجاورة ثم فقدتها مع الهوية هنا.
- أنت كاذب.
- هذا رفيق رحلتي إلى هنا يشهد بصدق قولي.
- هذا لا يكفي، لا بدّ للتأكد من صحة قولك وجود ورقة المرور معك، أو هويتك، أو بطاقة إثبات تحمل صورتك، وتثبت دخولك لبلادنا بالشكل النظامي.
- فقدتُ كل ذلك.
- لا بد من ذلك كله لنعلم حقيقة أمرك ولمن تنتمي.
- ولكني لم أعد أملك تلك الأوراق وليس لديّ ما أقوله.
عندئذ أصدر رجل الأمن أوامره بالتحقيق في هوية هذا السائح المجهول؛ وفي تقرير حيثيات سجنه وردت هذه المعلومات: عند تفتيش حقيبة المذكور وجد ضمن محتوياتها صحيفة من صحف البلاد التي يدعي الانتماء إليها (الوادي الأخضر) وعند دراسة محتويات الصحيفة المذكورة من قبل أجهزة الاستخبارات والعقول الإلكترونية – الحديثة! - أوصت هذه الجهات بالتحفظ على السائح فاقد الهوية حتى تنتهي قضية الشرق الأوسط. وربطت هذه الأجهزة البشرية والآلات الاصطناعية بين دخول هذا السائح إلى البلاد وبين مقالات منشورة في الصحيفة التي وجدت ضمن حقيبته!
وتسرد القصة عناوين وملخصات مقالات تتحدث عن الصراع في المنطقة والمؤامرات والدسائس بين كل دولة وجاراتها بشكل يشبه تماماً ما نطالعه في الصحف الآن!
الواقع، في زمن كتابة سليمان الحماد لهذه القصة (قبل ثلاثين عاماً) أن مشكلة الهوية كانت تتمثل تماماً كما كتبها محمد الماغوط في فيلم الحدود.. إثبات الهوية.. الأوراق.. وقد أصبحت تلك المشكلة من الماضي الآن، إذ لا أوراق مطلوبة في التنقل بين الدول، حتى تذاكر الطيران أصبحت رقمية إلكترونية، وما جواز السفر إلا مجرد حامل لأختام التواريخ يشبه المذكّرة ومن الممكن التحقق برقم الهوية التي لا بد أن يكون كل شخص يحفظه غيباً، وحتى إذا لم يحفظ فثمة (بصمة إلكترونية) أصبحت مستخدمة في معظم الدول وهي تغني عن الأوراق في معظم الأحيان، أو تسهّل عملية استخراج بدل فاقد لها.
من شاهد فيلم (الحدود) قبل ثلاثين عاماً وجده فيلم المرحلة الآنية المعبرة عن مشكلة (الهوية) تماماً في ذلك الزمن، غير أنه حين يشاهده الآن سيجده يناقش القضية من زاوية محدودة جداً (الأوراق) وقد تجاوزها الزمن تماماً الآن إلى قضايا أكثر خطورة وتعقيداً.
ومن قرأ قصة (الهوية) قبل ثلاثين عاماً وجدها تشطح بالخيال لأمور مستبعدة في ذلك الزمن، وقد لا تعني سوى التوهّم بمشاكل تتجاوز المشكلة الأساسية (الحدود) وكيفية العبور منها بموجب إثباتات ورقية لا أكثر؛ غير أن من يقرأ القصة الآن سيجدها تصف الحال بصورة متطابقة مع الراهن الذي وصلنا إليه، بخاصة من بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 والمشكلة تتسع وتتمدد والكارثة تتفاقم والمعضلة تشتد.. أنت مدان ليس لأنك مجهول الانتماء إلى بلد بل لانتمائك إلى بلدك.. أنت ممنوع من المرور عبر الحدود ليس لأنك لا تحمل ورقة تثبت هويتك بل لأنك تحمل أوراقاً تؤكد هويتك!
المقارنة بين عمل محمد الماغوط وعمل سليمان الحماد غير عادلة هنا ولكنها واجبة. فعمل الماغوط (الحدود) وصل إلى كل الناس في ذلك الزمن، عبر السينما والفيديو والتلفزيونات العربية - الرسمية في ذلك الوقت - التي تسابقت لعرضه وكأنها تبتسم أمام مرايا الهوية من كل زوايا الحدود. بينما عمل سليمان الحماد لم نستطع اكتشافه جيداً في ذلك الزمن نفسه، ولم يعطه أحدٌ ما يستحق من المطالعة والتأمّل والاهتمام.. فظل مدفوناً في كتاب لم يوزّع جيداً ليس في الدول العربية فقط، بل حتى محلياً، إذ لم تصدر منه سوى طبعة واحدة – من دون ناشر - وكانت على نفقة المؤلف.
إنني أحرّض هنا على إعادة قراءة أعمال الأديب الراحل سليمان الحماد، فقد كان يكتبها من أجل زمن قادم.. هو الزمن الذي نعيشه الآن.
- الرياض
ffnff69@hotmail.com