من منا لم يحلم ببيت فوق الشجرة، عندما تضيق بقدميه الأرض تحملها السماء، عندما كنّا أطفالاً كانت الأحلام أبسط، عندما كنّا أطفالاً كنا نصدّق خرافات الجدّات وحكايات العمّات، كان الهروب هو الحل دائماً، هروب إلى حضن أمي حيث الأمان، هروب إلى فكر أبي حيث الحلول، وكبرت. وكبرت معي عاداتي.
أصبحت أقرأ كل ما تقع عليه عيناي، ابتداءً من أسعار المستلزمات الغذائية وانتهاءً بأسعار العملات أسفل جرائد أبي، صنّف الكثير من العلماء والمثقفين أن إدمان القرأة نوع من أنواع الهروب الفكري والعقلي عن الواقع، وهذا صحيح نوعاً ما، لكن لطالما نظرت للأمور من زاوية أخرى.
نحن سجناء لحواسنا الإنسانيه البسيطة، لا ندرك فلسفة الأمور وأبعادها، فالهرب لطالما كان رذيلة إنسانية في كل المجتمعات، صفة تجلب العار لمن يقترفها، نحن لا نرى إلا من باب واحد للحقيقة إن كانت موجودة، فالحقيقة المجردة أمر نسبي أحياناً، افتراض نفترضه لمساعدتنا على الاستمرار.
استخدمت الهروب في أوضاع لم أستطع حلّها أحياناً كثيرة ووجدته أفضل بكثير من مواجهة لا طائل منها ولا مكسب سوى الكثير من الأسى، الهروب إنه الابتعاد للتفكير والتأمل والبحث عن مخرج أو أحياناً مدخل.
هروب من الظلم للعدالة، هروب من الحروب الفتاكة، الهروب من واقع سلبي، أهم أسباب رفض الواقع هو إننا متمسّكين بكافة توقّعاتنا المسبقة عن الحياة ومعتقدين أن الحياة تدين لنا بشيء ما, مع ما يعنيه ذلك من غضب وحزن، فمن ربط الهروب بالسلبية؟! هنالك الهروب إلى الأمام نحو الحداثة الأدبية ونحو التوقعات الإيجابيه، فالهروب ليس إلا الخروج من دائرة الواقع فقط وخلق عالم مواز نقوم بتأثيثه وفق رغباتنا واحتياجاتنا، رغماً عن الواقع، إن الهروب قوّه عكس ما تعتقدون، فنحن لا نهرب باتجاه الفراغ، بل نحتاج لخيال نشط وعميق لخلق مكان آخر، يليق بأحلامنا. يقول ليفيناس صاحب كتاب الهروب:
إنَّ حاجة الهروب... تقودنا إلى صميم الفلسفة، وتسمح لنا بتجديد المشكلة القديمة للكينونة بما هي كينونة».
سفينة نوح في القرآن الكريم كانت مثالاً مقدساً للهروب عند نزول الامتحان والقدر، فالإنسان مخلوق ضعيف لا يستطيع مواجهة الطبيعة القاسية لذلك ألهمهم رب العالمين بصنع السفينة والهرب من العذاب.
الرئيس البوسني السابق علي عزت بيجوفيتش في كتابه «هروبي إلى الحرية» يقول: «مع أسفي، لم يكن ذلك هروباً حقيقياً، وكنت أود لو كان كذلك، الأمر هنا يتعلق بهروب معين، كان ممكناً في سجن فوتشا ذي الجدران العالية، والقضبان الفولاذية، وهو هروب الروح والفكر، ولو أتيح لي فعلاً الهرب لأعطيت الأولوية للهروب الجسدي قبل هذا الثاني»
ولطالما استمر الكاتب بالكتابة والشاعر بالشعر والقارئ بالقرأه فهو في حاله هروب لن يدركها من حوله.
ما المانع أن نطلق مصطلح «لاجئ ثقافي» لكل من رغب في هروبه الفكري لكتاب ما؟!
مصطلح اللاجئ ليس مقتصراً فقط على من استبعد من وطنه، إن الأدب فعلاً هو هروبنا ولجوئنا الثقافي لكل من ينشد الحرية.
أحلام الفهمي - الدمام