والآن، وبعد أن انتهينا في الجزء السابق من قوانين "مانو" والفلسفتين الهندوسية والجينية، نأتي إلى (الفلسفة المادية) في الهند، وأعتقد أنني أستطيع إيراد خلاصتها في سبع نقاط بارزة ظهرت لي بوضوح، وهي:
1- كما يقول نيوتن فيزيائيًا: "لكل قوة فعل قوة ردة فعل مساوية لها في المقدار ومعاكسة في الاتجاه"، فقد ظهرت هذه الفلسفة الملحدة -بحسب عدد من الباحثين- كردة فعل عنيفة على التعاليم الدينية الواردة في الفيدا واليوبانيشاد، خاصة المتشددة أو المخالفة للعقل منها، بالإضافة إلى أن كثيرًا من أتباع هذه الفلسفة المادية هم من القبائل الهندية الأصيلة المعروفة بالدرافيديين، الذين مارس ضدهم القادمون إلى بلادهم من الآريين العديد من صور التهجير والغزو والاحتلال والاحتقار والانتقاص. وهذا لا يعني أن كلَّ المنتمين إلى هذه الفلسفة الإلحادية من القبائل الهندية الأصلية، فهناك نسبة من الآريين أيضاً اعتنقوا هذا الاتجاه؛ ولكنهم أقل من الهنود الدرافيديين.
2- لا يمكن الإطالة حول هذه الفلسفة كثيرًا، إذ لم يصلنا عنهم إلا القليل، وغالبه منقول من كلام معارضيهم، الموجود في نصوص الفيدا واليوبانيشاد وغيرها من كتب خصومهم المتدينين.
3- تظهر في أفكارهم وأقوالهم المنقولة لنا حدةٌ وغضبٌ وسخرية واحتقانٌ ورفضٌ عنيفٌ لرجال الدين، كتشبيههم رجال الدين بالحيوانات المستقبحة، كالكلاب والحمير وما شابه من نعوت وأوصاف سيئة، ومن هنا يتأكد ما أشرنا إليه في البداية من أنهم ردة فعل في الغالب. والحقيقة أن هذا يقودني لذكر نقطة طالما أشرت لها في كتابات سابقة، وهي أن نسبة لا يستهان بها من الملحدين في غالب المجتمعات، ظهرتْ كردودِ أفعالٍ على تسلّط وممارسات وإقصاء ووصاية رجال الدين، خاصة المتطرفين منهم، وهذا لا يعني أن كلَّ ملحد هو ردة فعل بالضرورة، فهناك ملحدون صادقون مع أنفسهم ومع عقولهم، ويتعاملون مع المجتمع وأحداثه وحراكه تفاعلا منطقيًا أخلاقيًا يستحق الاحترام مهما اختلفنا معهم في القناعات، والله أعلم بخلقه وأحوالهم وظروفهم التي تدفعهم للاختلاف في القناعات، خاصة العقائدية منها.
4- يرون -كغيرهم من الملحدين في كل المجتمعات- أن النصوص الدينية ليست إلا من تأليف البشر ورجال الديانات، ولكن الملاحظ على الماديين الهنود شراستهم وعنفهم اللفظي في رمي رجال الدين وأفكارهم بأبشع الأوصاف وأشنع العبارات، كقولهم: إن الكتب المقدسة ليست إلا مؤلفات الحمقى والمهووسين والمغرورين والمجانين.. وما شابه. بل زادوا حتى وصلوا إلى سبِّ بعض الآلهة الهندية، كقول بعضهم: الإله "فشنو" لا فرق بينه وبين الكلاب.
5- رغم أن عقيدة (تناسخ الأرواح) سائدة في الهند ووردتْ في كثير من كتبهم المقدسة، ورغم أن غالب المدارس الفلسفية والدينية في الهند تتطرق لها بشكل أو بآخر.. إلا أن الفلسفة المادية في جملتها تكفر وتكذب كل ما ورد في هذا الموضوع جملة وتفصيلا، بل وتكفر بكل ما ورد في عالم الأرواح وما بعد الموت من أخبار النعيم والعذاب وما شابه ذلك، فهذه الفلسفة الملحدة لا تؤمن بأي شيء من هذا القبيل نهائيًا، بل تصرُّ على أن كلَّ ذلك أقوالٌ فارغة وأفكارٌ وهمية كاذبة!.
6- هناك فرقة قريبة من هذه الفلسفة المادية، بل يراها البعض داخلة في نطاقها العام، وهي (اللاأدرية) الموجودة في المجتمع الهندي منذ القدم، كغيره من المجتمعات، فاللاأدريون ينتشرون في كل الدول والمجتمعات، وهم مجموعة من الشكاك والمتوقفين والمتسائلين الذي يرون أنه من الصعب الوصول إلى مواقف يقينية من القضايا والمواضيع الماورائية والميتافيزيقية المختلفة، كمصير الإنسان بعد الموت، ووجود الأرواح والآلهة الذين يتحكمون في الكون والحياة...الخ.
7- رغم كثرة التيارات التي تتشكل منها الفلسفة المادية في الهند، إلا أنها تتقاطع مع بعضها في قواسم مشتركة، نستطيع من تأملها تكوين انطباع عام جيد عنها، ومن أبرزها مثلا أنهم لا يؤمنون بوجود حقيقي للروح، فهذا الافتراض عندهم لا يتجاوز الوهم، كما لا يعترفون بأية آلهة، ويعتبرون ذلك من الأباطيل والأكاذيب. وتشترك كلُّ تيارات هذه الفلسفة الإلحادية في الانطلاق من نقطة هي رفض غالب الأفكار الواردة في الفيدا واليوبانيشاد، خاصة الميتافيزيقية منها، كما تشترك في أن المعرفة الحقة هي ما ينال ويعرف ويدرك بالحواس فقط، أما ما يكون خارجًا عن سلطة الحواس، فلا توليه الأكثرية منهم اهتمامًا كبيرا.
كما ينظرون إلى العقل باعتباره مجرد قوة عضوية أو وظيفة بدنية يؤديها المخ، وهم هنا يشتركون مع غيرهم من الفلاسفة الماديين ذوي الاتجاه الملحد.. بالإضافة إلى أنهم يرفضون فكرة الخلود والرجوع إلى الحياة أو إلى أية حياة أخرى.. ويرفضون أيضًا فكرة الدين من أساسها، ولا يعتقدون بوجود الله ولا أية آلهة.. إنهم أيضا لا يعترفون بوجود أي تدبير رباني للحياة، فليس هناك أية عناية ربانية تدبّر أو تشرف على مسيرة الكون والتاريخ.
ونختم بأن هؤلاء الفلاسفة الماديين في الغالب لا يلقون بالا للأخلاق بمفهومها المعروف السائد في الفلسفات الدينية الهندية، وينظرون إليها بوصفها أعرافاً اجتماعية تختلف باختلاف القناعات والأشخاص والمجتمعات، فالفضيلة عند عدد منهم -مثلا- لا قيمة لها، بل هي غلطة الضعفاء والأغبياء كما يُعبّر البعض.
نتوقف هنا الآن، ونختم هذه السلسلة بإطلالة سريعة على (الفلسفة البوذية) في الجزء القادم الأخير بعون الرب.
وائل القاسم - الرياض