بدأ النشاط النسوي في دول الخليج في منتصف القرن الميلادي الماضي على يد مجموعة قليلة من النسوة الخليجيات، اللاتي نجحن بجهد فردي (أو مدعوم نسبياً) في وضع القاعدة الأولى لبناء صورة مختلفة للمرأة الخليجية، تبدو فيها أكثر قدرة على التعاطي مع متطلبات تلك المرحلة (مرحلة انتقال أغلب دول الخليج إلى دول مستقلة أو مكتملة البناء).
ولو تدبرنا القواسم المشتركة بينهنّ لاستطعنا اختصارها في ثلاثة:
1- الحصول على قدر جيّد من التعليم لم يكن متوفراً في جميع دول الخليج آنذاك.
2- التواصل مع مجتمعات خارجية (كأمريكا، والدول الأوروبية، والعواصم الكبرى في العالم العربي كالقاهرة ولبنان).
3- الرغبة الجادة في القيام بعمل ثقافي واجتماعي، يستهدف المرأة في الخليج؛ لتحقيق غايات إنسانية عامة - كما سيأتي -.
لقد كانت البداية الفعلية لتكوُّن هذا النشاط من ارتباط عدد محدود من النساء الخليجيات بمجتمعات مختلفة - متمدّنة (عربية وغربية)، حققت فيها المرأة خطوات واسعة في مجالات التعلّم والتعليم والعمل والعمل التطوعي والتعاطي مع منظومة الفنون، ويمكن أن أشير هنا - على سبيل المثال - إلى اتصال سميرة خاشقجي بمصر، وهدى الرشيد بلبنان ومصر، وصفية عنبر ببريطانيا (وكلهنّ سعوديات)، وكذلك ارتباط البحرينية عائشة يتيم بالهند وبريطانيا، والكويتية لولوة القطامي ببريطانيا؛ فلقد أتاح لهنّ هذا التواصل الحصول على قدر كبير من المعرفة، في مجال اللغات (الإنجليزية، والفرنسية، والفارسية)، والتجارب السياسية والفكرية والثقافية والأدبية والاجتماعية، هذا بالإضافة إلى اتصالهنّ المباشر بالتجمّعات النسوية في عدد من الدول العربية كما في نادي سيدات القاهرة.
وقد أفضت بهنّ هذه التجربة الثرية (لكلّ واحدة منهنّ تجربتها الخاصة) إلى قناعة راسخة بأهمية العمل من أجل المرأة في دول الخليج، وهذه القناعة تستند إلى تجارب رائدة، تقيس تطوّر المجتمعات بتطوّر وضع المرأة فيها، ولذلك اجتمع نشاطهنّ في قناتين رئيستين:
الأولى: تعليم المرأة الخليجية، من خلال المطالبة بتعليمها، والضغط على دوائر القرار في دول الخليج لتسريع الانتقال بتعليم المرأة الخليجية إلى مستوى متقدّم، وقد ألّفت سميرة خاشقجي - في هذا السياق - كتابها «يقظة الفتاة العربية السعودية»، وناقشت فيه عدداً من القضايا المهمة للمرأة السعودية، ومنها - بل من أهمها - قضية التعليم، وقد صدرت طبعته الأولى (بحسب متابعتي) عن المكتب التجاري للطباعة في بيروت عام 1963م، أي: بعد أربع سنوات تقريباً من صدور الأمر الملكي بإنشاء مدارس للبنات، وفي المدة التي شهدت مواجهة عنيفة بين التيارات المختلفة حول هذا التوجـّه.
والثانية: محاكاة النموذج الذي بلغته المرأة العربية في دول المركز (كما كانت تُسمّى آنذاك)؛ وقد شهدت البحرين في عام 1953م أولى المحاولات في هذا السياق؛ حيث توجهت مجموعة من النساء - انطلاقاً من تأثر بعضهنّ بعضوية نادي سيدات القاهرة - إلى تأسيس نادٍ للسيدات، وقد عُدّ هذا النادي أول نادٍ للمرأة في البحرين ودول الخليج (كما يشير محمد سرحان في كتابه: دور المرأة البحرينية في رفد الثقافة، ص15).
ورغم المواجهة الكبيرة التي تعرّض لها هذا النادي من بعض فئات المجتمع البحريني فقد تسلحت الناشطة البحرينية وقتها بالمواجهة، وأصدر مجلسُ النادي بياناً حاداً، فنّد فيه مزاعم المعترضين، وعبّر عن تمسكه بحقه في الاستمرار، ورغم صدور قرار رسمي بإلغاء النادي بعد ثلاثة أشهر من إشهاره فقد ظلت (عضواته) متمسّكات بحقهنّ في الاجتماع للحوار حول شؤون وشجون المرأة البحرينية، والبحث عن الطرائق الممكنة لخدمتها (انظر: السابق، وكذلك مجلة حقول، ع5، سبتمبر 2007م).
وفي الكويت كان الحدث الأقدم في هذا السياق توجه الدولة بعد الاستقلال مباشرة إلى دعم إنشاء الجمعيات النسائية، فأُنشئت في عام 1962م «جمعية النهضة العربية النسائية»، وأُشهرت في العام الذي يليه، وقد استهدفت هذه الجمعية نساء الطبقة الوسطى، ووجّهت اهتمامها إلى القضايا الجوهرية للمرأة كالتعليم، وتعدّد الزوجات، والطلاق، وما إلى ذلك.
وقد تلا هذه الخطوة بعامٍ واحدٍ إنشاء «الجمعية الثقافية النسائية»؛ لتمثّل نساءَ الطبقة التجارية، وقد صيغت هذه الجمعية بنظام يحفظ لها طابعَها النخبوي؛ لذلك كان اهتمامها موجّهاً إلى الأنشطة الترفيهية الخاصة بالأعضاء، والنشاط الاجتماعي المتمثل في تقديم الخدمة غير الربحية للفقراء، وكذلك التفاعل مع مجمل القضايا العربية (انظر: هيلة المكيمي: العوامل المؤثرة في حصول المرأة الكويتية على حقوقها السياسية، ص20).
وربما كانت خطوات المرأة الكويتية أكثر جرأة؛ باتجاهها في وقت مبكر إلى المطالبة بالحقوق السياسية، ويمكن أن أشير في هذا الموضع إلى العريضة التي قدمتها الرائدة الكويتية نورية السداني عام 1971م إلى مجلس الأمة الكويتي؛ للمطالبة بهذا الحقوق (انظر: مجلة حقول، ص93) هذا بالإضافة إلى قدرة المرأة الكويتية على تحقيق مكاسب مبكّرة على المستوى الإعلامي والفني، تتجاوز ما حققته المرأة في أغلب دول الخليج.
وأما في السعودية فقد كان النشاط النسوي في تلك المرحلة محصوراً في دائرة نخبوية، وفي حدود ضيّقة لاعتبارات متعدّدة، ويمكن أن أشير في هذا السياق إلى تأسيس سميرة خاشقجي مع أخريات جمعية النهضة النسائية في عام 1962م، ثم نادي فتيات الجزيرة في الرياض، وبحسب إشارة سعاد المانع في قاموس الأدب والأدباء (ج1، ص434) فإنّ هذا النادي يمثّل الخطوة الأولى لظهور المرأة المثقفة بصورة جماعية في المجتمع النسائي السعودي.
ورغم التأخر النسبي في نشاط المرأة في كل من الإمارات وقطر وعمان عن الكويت والبحرين ثم السعودية، فإنّنا من حيث الجملة نجد أنفسنا أمام مسودة واحدة للحركة النسائية في جميع دول الخليج، تبدأ بتأثر مجموعة من السيدات بالمرأة العربية أو الغربية، ثمّ التحرك على خُطى نشاطها، وإن كان ثمة تفاوت بين هذه الدول فهو في أسبقية التاريخ (وهو مُعطى مهم لتكوين الريادة)، ومساحة النشاط المتمثلة في تعدّد مجالاته وتنوّع أهدافه، وكذلك في استمراره واستناده إلى إطار تنظيمي يمكّنه من تحقيق غاياته.
ورغم العقبات الكبيرة التي تعرّض لها النشاط النسوي في تلك المرحلة فقد استطاع كسرَ الحاجز الأصعب، المتمثل في الصورة الذهنية السلبية للمرأة الخليجية، أمام ذاتها أولاً، ثمّ أمام مجتمعها ثانياً، والعالم العربي بصفة عامة.
وبالإضافة إلى ما سبق أقدّر أنّ ثمة عوامل أخرى أسهمت في نجاح تلك المحاولات (بالتراكم)، وقد استطعتُ الاستدلالَ على كثير منها من خلال القراءة الخاصة في هذا السياق، ويمكن أن أختصرها هنا في عاملين:
الأول: حرص أغلب الناشطات في تلك المرحلة على خدمة المرأة العادية (البسيطة إن صحّ هذا الوصف)؛ إذ لم يكن الهمّ النسوي آنذاك نخبوياً بكامله، بل كان متنوعاً، يهتم بالتوعية الصحية والثقافية والاجتماعية، في الوقت الذي يمارس فيه نشاطاً نخبوياً جاداً للمطالبة بحرية التعبير وحق المساواة والمشاركة السياسية (كما في حالة الكويت والبحرين).
والثاني: حرصهنّ على الاهتمام بالقضايا الكبرى، ورغبة أكثرهنّ في عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع المجتمع المحافظ، لا بل كان النشاط في تلك المرحلة يبحث عن الطرائق الممكنة لاستيعاب الرافضين، وتفهّم وجهة نظرهم ما لم تأخذ شكل الحاجز الذي يعطّل العمل أو يهدّد وجوده.
وقد وجد بعض الراصدين في نشاط تلك المرحلة جهداً علمياً وأدبياً وفنياً كبيراً، ومساهمة ثرية في جميع القضايا الوطنية والثقافية والاجتماعية؛ ولذلك يمكن أن أقول إنّ النشاط في تلك المرحلة كان نسوياً لأنه يُدار بفريق نسائي ويستهدف المرأة، وإلا فهو إنسانيُّ الوسيلةِ والغاية، يحاول معالجة الفقر، ومدافعة الجهل والمرض، ويسعى إلى رعاية اليتيم واستيعاب الغريب.
ويبدو الميدان الخيطَ الناظمَ لهذه التجارب المختلفة حتى التي توصف بالنخبوية، أي: أنّه عمل جاد ومكشوف، من السهل رصده ومتابعته وتلمّس آثاره، وهو جهدٌ شاق وفق إمكانات تلك المرحلة (وكلّ عمل ميداني كذلك)!
واليوم - بعد نصف قرن من تلك البدايات - ابتُلي مشهدنا الخليجي بناشطات من ورق، تلفّعن بلقب ناشطة سياسية، أو اجتماعية، أو حقوقية، دون أن يقدّمن شيئاً من متطلبات هذا اللقب، فنحن لا نجد خلف كثير منهنّ نشاطاً علمياً أو معرفياً كالذي قدمته اليمنية أبكار السقّاف، ولا أدبياً كالذي قدمته رجاء عالم وفوزية رشيد وليلى العثمان وأخريات، ولا اجتماعياً كالذي تقوم به اليوم بصمت مؤسسات نسائية متعددة في دول الخليج.
إنه حضور يشبه الغياب تماماً، يمكن أن يُوصف بألف وصف، لكن ليس من بينها وصف الناشطة، الذي يعبّر عن الفعل وصاحبه، عن المنجز الحقيقي، عن الذات بأبعادها المختلفة، وليس عن الصور المركّبة، والاستعراض بإمكانات الفراغ والعدم!
وأخيراً: لا أرى في (كثرة الكلام) ما يستحقّ لقب ناشط أو ناشطة، ولا أعدّ الظهورَ السطحي (المجاني) على الشاشات جزءًا من الحراك النسوي الذي تتطلبه هذه المرحلة؛ لذلك أتطلع إلى أن تقوم المؤسسات الإعلامية والثقافية بدورها في الاحتفاء بالأصوات النسائية الجادة، التي تحقق بظهورها إضافة معرفية أو أدبية، تؤصّل فينا ما حققته تلك البدايات، وتشفّ لنا عن المنجز الكبير الذي قدمته المرأة الخليجية في المجالات المختلفة.
خالد الرفاعي - الرياض