عندما جاء الإسلام وضع شروطاً جديدة لعملية تنمية مستدامة، فوحد الأرض ومن عليها من قبائل وواحات وتجار وعبيد وصنَاع في دولة مركزية واحدة ووفر الحماية لكل أنواع الاقتصاد، كما وظف جزءاً منه (زكاة) و(الصدقة) لعملية التنمية (استصلاح الأراضي وبناء مؤسسات الدولة والفتوحات)، وكذلك التكافل الاجتماعي (ضمان).
أول من استجاب للدعوة هو الاقتصاد الزراعي ممثلاً بيثرب، التي استقبلت الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالأنشودة المشهورة:
طلع البدر علينا من ثنيَات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
................. إلخ
ذلك لأن الاقتصاد الزراعي الثابت إما أن يكون عرضة للنهب المباشر، أو أن تنبري إحدى القبائل أو مجموعة قبائل لتدافع عن الأرض المزروعة مقابل جزء من المحصول، وهذا هو نهب غير مباشر.
أمَا التجَار فقد توجسوا من الدعوة وتوهموا فقدان امتيازاتهم، وقد فشل أساطين مكة في اغتيال الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم- فذهبوا إلى البديل الأفضل لهم، ألا وهو الحرب.
فشلوا أيضاً في كل الغزوات بالرغم من تفوقهم العددي والعتادي، فلجؤوا إلى الهدنة الغاضبة، أي التي اعتمدت الحرب الاقتصادية محوراً لها أو ما نسميه نحن اليوم (المقاطعة الاقتصادية).
بالرغم من الحصار الاقتصادي المؤلم لم يمت المسلمون الثوار من الجوع واقتسموا الخبز فيما بينهم، أما أساطين المال لم يستطيعوا الاستمرار بالهدنة وتم خرقها.
قافلة أبي سفيان غيرت مسارها تفادياً للوقوع بالأسر، أي أنها زادت المسافة والوقت كي تصل بسلام، وبذلك خسر أبو سفيان مرتين، حيث خسر سوقاً كبيرة كسوق يثرب وخسر بزيادة مصاريف وصول قافلته إلى مكة.
لم يبق أمام أساطين قريش إلا قبول الدخول في المواجهة المباشرة، التي كانت نتيجتها حصار مكة، وأدرك ابوسفيان بذكائه التجاري أن الاستسلام (البديل المر) هو السبيل الوحيد للحفاظ على ثرواته، وذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأشهر إسلامه، كما أنه وعى أن حماية قوافله ضمن نظام اجتماعي غير قبلي، أي ضمن دولة مركزية، سيكلفه أقل بكثير مما كان ينفقه لاستئجار من يحمي القوافل.
الدولة الإسلامية العربية العظيمة، التي استقلت عن الروم شمالاً والفرس جنوباً وأدخلت أساطين المال -مثل أبي سفيان- في كنفها ضمن عملية الانتقال (التغيير) من التمزق القبلي العشائري العقيم، إلى رحاب التوحيد والمجتمع الخالي من العنصرية والضغينة والفتنة البدوية البغيضة.
تلك الدولة التي أرست دعائم لنظام اجتماعي جديد ضمن دولة مركزية، لم تكتف باستقلال الجزيرة العربية ونهوضها الاقتصادي - السياسي وحسب، إنما شرَعت لنقل تجربتها لأرجاء الأرض قاطبة (عولمة)، من أجل نشر فوائد التوحيد للبشرية كلها، حتى لو لم يغيروا أديانهم.
خلال الخلافة الراشدة اختفت ظاهرة -الحركة الصعلوكية- وهو دليل قاطع على أنها كانت ثورة ضد الاستئثار بالثروة ومحاولة لإحقاق حقوق المستضعفين في الأرض، وهي بهذا المعنى تعكس مدى عنفوان الصراع الاجتماعي في الجاهلية، ولكنها عادت للظهور في العصر الأموي، الذي تميز باستئثار المتنفذين بالأراضي المستصلحة وثروة بيت المال.
يقول هارون الحلبي: استمرت الصعلكة على مدار العصر الجاهلي، ولكن مجيء الإسلام الذي ساوى بين الناس..... وتقلصت مؤقتاً مظاهر التفرقة الطبقية... ولكن العصر الأموي عاد فكرَس الفقر والطبقية وانتشرت الملاهي والترف.... فنشأ جيل من الثائرين على واقعهم الاجتماعي يشبهون كثيراً صعاليك الزمن الغابر.. ولم يكن سلوكهم العدواني هدفاً بحد ذاته بل مجرد وسيلة للحفاظ على حياتهم وكرامتهم. ومن هؤلاء أبو النشناش النهشلي والأحيمر السعدي. (مدونة هارون الحلبي -سمات شعر الصعاليك- الموسوعة الحرة).
تلك المرحلة كانت مرحلة هامَة من تاريخ العرب، حاولت فيها الفئة المسحوقة من المجتمع القبلي، بقيادة جزء من الشعراء ذوي المكانة المتوسطة والعليا في قومهم، إحلال العدالة الاجتماعية بالقوة، وهو هدف وطني سامٍ، ولكنه لا يتوافق مع سنن التاريخ، أي كمن يريد (إدخال الفيل في خرم إبرة).
يظهر المنحى الثوري في منظومات الصعاليك القصيرة، لأن القصائد الطويلة غالباً ما كانت نتيجة لانتمائهم القبلي وليس لتوجههم الثوري، يقول الحلبي أيضاً: لم يتميز الصعاليك بالقصائد الطوال، بل كان شعرهم مقطوعات صغيرة تعبر عن الغاية باختصار، كما تميز شعرهم بوحدة الموضوع، فلم يكن يتفرع عن موضوع القصيدة مواضيع أخرى إلا ما ندر، ونلاحظ أنهم قد تركوا أسلوب الجاهليين في البكاء على الأطلال وتركوا المقدمات الغزلية التي لا تتناسب مع الموضوع الأساس، ويتميز شعرهم بالواقعية والشفافية والصدق وحرارة شعورهم بالظلم والفاقة... يمثل الصعاليك من الناحية الفنية خروجاً جذرياً عن نمطية البنية الثلاثية للقصيدة العربية.
خروج الشعراء الصعاليك عن النمط السائد في تلك المرحلة الشعرية بامتياز، هو تجديد بالشعر العربي نعيش نحن آثاره حتى اليوم.
كان الشعر في الجاهلية هو الإعلام والذاكرة المكتبية والثقافة والمعرفة والتاريخ، فإذا ما أردنا نحن في عصرنا الحالي معرفة مجريات الحراك الاجتماعي والنظام القائم لتلك المرحلة نلجأ للشعر. لا عجب إذن أن يكون هناك نمط سائد للقصيدة الجاهلية، يبتدئ بالغزل وينتهي بالفخر، وهو يعكس التركيب القبلي للمجتمع الجاهلي، ولكن الشعر الصعلوكي يعكس وصول المجتمع الجاهلي مرحلةً، لا يمكن بعدها الاستمرار بالنمط السائد والانتقال إلى تشكيلة اجتماعية جديدة، ولذلك اختلف بالمضمون والشكل وهو ما يستدعي اهتماماً أكاديمياً خاصاً.
المثير للاهتمام أن الحر كة الصعلوكية لم تقتصر على العرب وحدهم، فقد ظهرت في أوروبا إبَان العصور الوسطى حركة مشابهة (حوالي 1200م)، والتي تمثلت بشخصية (روبن هود Robin hood) بطل أفلام الكرتون الحالية هو شخصية برزت في الفلكلور الإنجليزي وهي تمثل فارساً شجاعاً، مهذباً، طائشاً وخارجاً عن القانون، عاش في العصور الوسطى وكان يتمتع ببراعة مذهلة في رشق ورمي السهام.. تمثل أسطورة روبن هود في العصر الحديث شخصاً قام على سلب وسرقة الأغنياء لأجل إطعام الفقراء، بالإضافة إلى ذلك حارب روبن هود الظلم والطغيان..كان يعمل هو ومجموعته القوية المسماة (ميري من) ومعناها الرجال المبتهجون، المكونة من 140 شخصاً معظمهم من (اليو من – أبناء الطبقة المتوسطة) في غابات (شيروود) في محافظة (توتنغهامشاير) بالقرب من مدينة توتنغهام (الموسوعة الحرة).
يوجد تشكيك في شخصية روبن هود هل هو حقيقة أم خيال؟. بالرغم من التأكيد أن اسمه ظهر في المحاكم الإنجليزية عام 1228م عندما بدأ روبن تمرده ضد شريف توتنغهام الظالم، ولكنه تحول إلى حركة عارمة هيأت الظرف التاريخي للتحولات اللاحقة في أوروبا، والحركة لا تنته باختفاء شخص وحلول آخر مكانه، إنما بالتغيير الذي يعيد هيكلة المجتمع على أسس جديدة.
الحركة (الروبنهودية) لا تختلف في المضمون عن الحركة الصعلوكية العربية، إنما بالشكل توجد بعض الفروق البسيطة:
أولاً: لم تترافق الحركة الروبنهودية مع الشعر كما هو الحال بالنسبة للصعاليك، وذلك لأنها نشأت بعد ظهور وانتشار الكتابة على نطاق واسع نسبياً، ولم تكن الذاكرة الجمعية مرتبطة بالشعر، إنما ترافقت مع نوع آخر من الإبداع -وهو الأغاني الشعبية والأناشيد.
ثانياً: ظهرت الروبنهودية بعد 1200 عام من المسيحية السائدة في أوروبا، بينما نشأت الحركة الصعلوكية العربية قبل الإسلام في القرنين الخامس والسادس الميلاديين، وهو ما يشير إلى أسبقية الصعاليك من جهة، ولكنهما كليهما ارتبطا بالظلم الاجتماعي من جهة أخرى.
ثالثاً: تحوَل الحركة الصعلوكية الأوروبية إلى أفلام كرتون تشيد بالدور البطولي لروبن هود، وتثبته في أذهان الأطفال كشخصية إيجابية هو اعتراف بالدور التاريخي للحركة، بينما أهملنا نحن العرب الحقبة الجاهلية من تاريخنا برمتها بما في ذلك الحركة الصعلوكية العظيمة.
توحيد الأرض والبشر ونبذ الفتنة والحروب والعنصرية والقبلية والفئوية وإقامة نظام عالمي يصلح الخلل القائم بين الظالم والمظلوم، لم يكن هدفاً للدولة الإسلامية وحدها، بل كان هدفاً لكل الثورات والمحطات المضيئة في التاريخ، بما في ذلك الثورة الرأسمالية الفرنسية منتصف القرن التاسع عشر.
الثورة الفرنسية أرست دعائم نظام ديمقراطي يوزع السلطات على مؤسسات سلطوية مراقَبة من مؤسسات المجتمع المدني والرأي العام -عن طريق الإعلام- لضمان حقوق المظلومين (حقوق الإنسان) وتوزيع الثروة، الذي يوفر البنية التحتية للنمو الاقتصادي (ضرائب) والتطور الاجتماعي العلمي الخدماتي العام.
لكن أساطين المال في عصرنا قلبوا المعادلات رأساً على عقب كي يستعبدوا شعوب الأرض وينقضّوا على ثرواتهم ببشاعة لم يعرفها تاريخ البشرية من قبل، وذلك خدمة لزيادة رأس المال ولو كلف أنهاراً من دماء الأبرياء، كما فعل أساطين المال من قبل.
ولكن الفيل لا يمكن إدخاله في خرم إبرة سواءً شاء أساطين المال العابرين للقارات ذلك أم أبوا، وقد تحوَلت شعوب الأرض قاطبة إلى صعاليك.
د.عادل العلي - الرياض