يقول الدكتور منصور الحازمي في تقديمه للمجموعة القصصية (حدث في الزمن الأخير) الصادرة عام 1985 للأديب سليمان الحماد – رحمة الله عليه: (عرفت الصديق سليمان الحماد، أول ما عرفته، من خلال كتابه الأول (أضواء على الزوايا المظلمة) سنة 1388هـ وكنتُ قد احتجتُ إلى آراء شبابنا الأدباء في المرأة – وكان واحداً منهم - إذ كنتُ أكتبُ آنذاك حلقات عن موقف الرجل من أدب المرأة، فعثرتُ على زوايا الحماد.. ثم عرفته بشحمه ولحمه حين ضمّنا مجلس إداري واحد في نادي الرياض الأدبي، فكان يملأ الباب - ما شاء الله - واقفاً، ويفيض على الأريكة الوثيرة إذا جلس. ولم يكن، مع ذلك، بديناً. يرعبك بصوته ذي النبرة العالية، ولكنه سرعان ما يطمئنك بابتسامته العريضة أو بضحكته المجلجلة..).
كان الدكتور الحازمي يفتتح حديثه عن أول معرفته بالحماد في زمن بعيد (قبل أن أولد أنا!). فكيف سأختتم حديثي أنا عنه، الذي ابتدأته منذ رحيله - رحمه الله - قبل أسابيع؟!
يقول الكاتب لطيف الفيروزي، في مجلة الشروق الإماراتية، أحد أعداد العام 2000 تحت عنوان (الذاكرة والسرد.. الحصاد نموذجاً): تتغير ملامحُ أرضٍ، ولكنها تظل محتفظة بوجهها الحقيقي في أعماقها.. وتختلف ظروفُ إنسانٍ، ولكنه يظل محافظاً على إنسانيته واعتزازه بتجاربه ووفائه لماضيه.. ويبقى السرد لغة واقعية تصف الأحوال وتؤرّخها، وتبقى الرواية شاهدة على كل هذا في قالب من خيال.. فلكل منا روايته، يحياها كاملة.. ليس على طريقته، وإنما على طرقات الظروف التي يمرّ بها زمانه.. وإن كان ثمة اختلاف في القيمة الذاتية لكل رواية فهذا عائد للشخوص المحورية في رواية عن غيرها لا لذاكرة المكان؛ وليس مبرراً لاختلافٍ في أهمية الحفظ أو سبيلاً لمشروعية الإسقاط عن التأريخ. ولا يمكن لنا أن نصف من يعنى برواية رومانسية بأنه معني بخيالات وأحاسيس من عصر معين ليس هو بعصرنا الراهن ولا الآتي.. فالزمان بيتٌ يضمّ مختلف التوجهات كعناصر في كل رواية تتمثـّل في تضاعيفـها تواقيع عصور تذكر عنها ولا تذكرها جيداً، وتتموج بين سطورها ذاكرة بقعة من الأرض تلمح ما عليها ولا تلمحها جيداً.. فلكل رواية همها الذي يستمد أهميته من أهمية المهتمين به، ومن بداهة القول إن شباب اليوم هم الأكثر أهمية لدى مختلف الشعوب.. وبمقدور الرواية، إن استهدفت، أن تعود بك إلى أزمنة طالما سمعت عنها ولم يتح لك غير السماع. كأن تسرد عليك حكاية عن مأساة هذا مع المرض أو الاضطهاد، أو سيرة امرأة ضحّت من أجل وليدها أو والدها، أو بطل رفع رأس قبيلته أو أمته.. وهكذا.. حكايات لك أن تقرأها وتتأثر بها ولكنك لا تجد دورك فيها، أو تجد دورك فيها ولكنك لا تمتاز بمعايشته ولا يأخذك الفضول إلى الرغبة بمعرفة ما يدور في الإطار الآخر الذي ينتصب على مسافة منك أو من قراءتك لما يُروى عنه. وهذا قد يكون كافياً لعزوف شبابنا عن البقاء مدة أطول في أجواء الروايات التوثيقية بكل أبعادها ومفرداتها الضاربة في الجذور، والغائبة بعض الشيء عن واقعنا المعاش في اللحظة الراهنة. ولكن، عندما نجد بين أيدينا عملاً روائياً صيغ بذكاء يحترم الذاكرة والأخيلة – وإن كان يتماهى معها، أو بعضها يتقاطع معه لتعدد إيحاءاته – وينسجم مع إيقاعنا اليومي الذي يمتدّ امتداد الوعي بين طفولتنا وتطلعاتنا؛ فهذا هو العمل الذي يجدر به أن يأخذنا إليه داخلاً بنا إلى زمن كدنا أن نلامسه أو كاد أن يحتوينا ولكنه تركنا في ظهور آبائناوراح يتلوّن عليهم حتى تغيّر فجأة فيما نحن نرمقه ونتأتئ دهشةً وهم يسردون علينا ويترحمون عليه.. وهذا، كما رأيت، هو العمل الجدير بأخذنا، أو نحن الأجدر ممن سيأتي بعدنا بالدخول إليه، وقد وضعه لنا الأديب السعوديّ المعروف سليمان الحمّاد في رواية عنوانها الحصاد).
وللأمانة الشديدة التي التزم بها سليمان الحماد طيلة حياته، رحمه الله، اتصل بي بعد مجهود منه في البحث عن رقم هاتفي إذ كنتُ في بيروت (العام 2004) حين أراد طباعة روايته الأخيرة (العذابات الصغيرة) لأنه أراد أن يستشهد فيها ببعض ما قاله لطيف الفيروزي (وهو يعرف أنه أنا!) متسائلاً هل يضعه باسمي الصحيح أو المستعار، فأجبته أن يضع الاسم الموقع به في المادة المنشورة، فوافق على مضض؛ والآن أعرف أنه كان من الأفضل أن ننحّي الاسم المستعار الذي كان لأغراض تحريرية تتعلق بعدم اللياقة في تكرار اسمي على أكثر من مادة كنتُ أكتبها لكل عدد من تلك المجلة. فقد انتهى السبب غير أنني لم أنتبه.
وسأنتبه الآن قبل استهلاك المساحة المتاحة لهذه المقالة فأضع توثيقاً لإنجازات سليمان الحماد التي أغفلتها موسوعاتٌ كثيرة ولم تذكر منها سوى القليل:
سليمان محمد سليمان الحماد (1943 - 2015) ولد وعاش وتوفي في الرياض؛ صدرت له الكتب التالية:
1- أضواء على الزوايا المظلمة، قصص قصيرة، 1968
2- امرأة تعبر تفكيري، قصص قصيرة، النادي الأدبي بالرياض 1979
3- يوم المطر، شعر شعبي، جمعية الثقافة والفنون 1977
4- جدّي الفلاّح، شعر شعبي، جمعية الثقافة والفنون 1977
5- حدث في الزمن الأخير، قصص قصيرة، 1985
6- أغلق الباب خلفك، قصة طويلة، الرئاسة العامة لرعاية الشباب 1977
7- الآلة تسرقني ذهني، قصص، الرئاسة العامة لرعاية الشباب 1979
8- أحدث المقامات، نثر أدبي، 1980
9- الحصاد، رواية من أربعة أجزاء، مؤسسة إصدارات النخيل 2000
10- العذابات الصغيرة، رواية، مؤسسة إصدارات النخيل 2004
11- من السادسة إلى الستين، سيرة ذاتية صدر منها ثلاثة أجزاء، عن مؤسسة إصدارات النخيل 2010
وفي الدراما والمسرح أنجز الأعمال التالية:
1- النص والإنتاج، مسرحية أخرجها محمد رشدي سلام 1982
2- الأستاذ مكرر، مسرحية أخرجها محمد رشدي سلام 1984
3- الأدوار الثانوية، مسرحية أخرجها الحبيب القردلي 1989
4- الأجراس، مسرحية أخرجها علي الهويريني لمسرح النادي الأدبي بالرياض 1997 وتكرر عرضها في أكثر من حفل.
كما كتب للتلفزيون السعودي مسلسل (البخيل) إخراج محمد الجدي، وكتب لإذاعة الرياض أكثر من أربعة آلاف حلقة ما بين مسلسلات وبرامج وأحاديث.
هذا، ويُعدّ سليمان الحمّاد واحداً من الذين ساهموا في تأسيس الأندية الأدبية، والمحافظة على استمراريتها. وكان قبل ذلك محرراً للصفحة الأدبية في صحيفة الجزيرة وله زاوية أسبوعية فيها. كما أنه أنشأ مؤسسة إصدارات النخيل التي أصدرت كتباً متميزة في الشعر والقصة والنقد لأدباء محليين وعرب، وأنشأ مطابع الخزرجي لطباعة الكتب. وكان يرأس تحرير المجلة الأدبية، وكان فوق هذا كله بارعاً في التلحين والعزف على آلة العود والغناء.
أشياء كثيرة قلتها عنه في مقالات سابقة، وأشياء أكثر لم أقلها، غير أنني سأظل أترحّم عليه وأطلب له خير الجزاء في الدار الآخرة؛ فقد أعطى للدار الأولى أدباً وفناً وفكراً ولم ينل في مقابل ما أعطى إلا العناء.. لم ينل جائزة ولا تكريماً من أيّ جهة، لماذا؟ فقط لأنه كان ينجز أعماله الأدبية بحساسية إبداعية خلاّقة تجعله يتجنب كثيراً من الأضواء العابرة، ملتزماً شموخاً لا يستطيع الالتزام بمثله إلا الكبار. رحمه الله وأسكنه مع الصدّيقين الأبرار.
- الرياض
ffnff69@hotmail.com