تعود معرفتي بأستاذي الدكتور محمد السديس - رحمه الله - إلى سنوات الدراسة الجامعية في كلية الآداب جامعة الملك سعود عام 1406هـ، وكان اسمه يتردد بين الطلاب آنذاك بأنه يتميز بجده وصرامته التي جعلت بعض الطلاب يتهربون من الدراسة عنده. وكان يدرس مادة «دراسة شاعر عربي»، وقد قررت أنا وزميلي الدكتور محمد الخليف أن نقبل التحدي وندرس عنده غير عابئين بما يقال بالرغم من بعض الرهبة التي تعترينا خوف فشل التحدي ثم نندم، وفعلاً درسنا عنده.
وفي المحاضرات الأولى شعرنا برهبة الدكتور محمد السديس وجده وتعليقاته الطريفة وحرصه الشديد على أن يعلمنا تذوق النصوص الشعرية والغوص في أسرارها، وقد التمس جانباً مهماً عند الشاعر ذي الرمة ولفت نظرنا إليه، وهو قدرة الشاعر العجيبة المتميزة في تتبع مناهل الماء ودقته في وصفها والحديث عنها.
ولم تكن عناية الدكتور محمد - رحمه الله - مقتصرة على الأدب فحسب، بل كان يفاجئنا أحياناً وهو يملي علينا بعض التعليقات على النص بقوله: «قفوا وضعوا أقلامكم»، فيراجع ما كتبنا بحثاً عن خطأ إملائي وقعنا فيه فينبهنا عليه ويصححه لنا.
وبحمد الله كانت دراسة المادة عنده - رحمه الله - ممتعة واجتزناها بتقدير امتياز.
والدكتور محمد - رحمه الله - شخصية نادرة في خلقه، وأذكر أنه مرة دعانا أن نشارك الأساتذة في رحلة غداء في مزرعة الشيخ عبد الله بن خميس - رحمه الله - مما يدل على تواضعه وطيبته، وقد وجدناها فرصة سانحة أن نجلس بصحبة أساتذة كبار فنستفيد من علمهم ونقاشاتهم.
وأتذكر منهم - إن لم تخني الذاكرة - الأساتذة: د. صالح الوهيبي، د. ناصر الرشيد, د. حسن ظاظا, د. أحمد كمال زكي, د. منصور الحازمي, د. نذير العظمة, د. عثمان الفريح وغيرهم كثير.
ثم انقطعت الصلة بالدكتور محمد - رحمه الله - بعد تخرجي من الجامعة والتحاقي بالسلك التعليمي معلماً سنة 1409هـ، ويشاء الله ذات يوم بعد سنوات طويلة أن ألتقيه مرة أخرى في حي المصيف الذي كنت أسكنه، حيث رأيته يقف عند بيت له يبنيه، فعرفته مباشرة وأوقفت سيارتي وسلمت عليه وعرفته بنفسي فاحتفى بي وشكر لي وقوفي وتذكري إياه وسلامي عليه.
ومنذ تلك اللحظة توطدت صلتي به كثيراً، فكنت ألتقيه مرات ومرات في اليوم، حيث كنا نصلي في مسجد واحد وهو مسجد التقوى - بعد أن أكمل بناء بيته وسكن فيه - وازدادت الصلة به.
ولي مع الدكتور محمد -رحمه الله وغفر له - ذكريات لا تُنسى، ومواقف طريفة متعددة، منها ما كان بيني وبينه مباشرة ومنها ما كان يقصه عليّ في لقاءاتنا.
سأسرد بعضها وأسكت عن بعضها لضيق المساحة، ففي سنة 1417هـ كان يجمعنا أنا والدكتور محمد - رحمه الله - والإخوة الأساتذة د. محمد الصامل ود. عبدالله العريني ود. عبدالله الدايل ود. حمد الحيدري ود. عبدالله الحيدري لقاء شهري آخر أربعاء بعد المغرب يتنقل في بيوتنا، وكان الدكتور محمد عمدة هذا اللقاء لمكانته وجلالة علمه، وكان من تواضعه أنه يمر عليّ بسيارته فيأخذني معه رغم أني كنت أعارضه وأقول إن الحق لك فيأبى، مما يدل على قلب واسع طيب وشخصية متواضعة.
وقد امتد هذا اللقاء سنوات ثم شاء الله أن ينقطع لانشغال الزملاء رغم إلحاحنا على استمراره ولكن.!
ومن المواقف التي لا أنساها أنني قلت له ذات يوم إن الأوراق التي كان يصححها لنا ما زلت أحتفظ بها وعليها تعليقه وتوقيعه، فهل تريد رؤيتها؟ فقال بابتسامة «لا تفضحنا».
ومرة كنت ذات صباح خارجاً للعمل بصحبة زوجتي وإذا بي أفاجأ به - رحمه الله - يعترض طريق سيارتي على قدميه ويقف أمامي ثم يضحك ويسلم عليّ، فقالت زوجتي متعجبة من هذا؟ فقلت: الدكتور محمد السديس فضحكت.
ومرة خرجت لصلاة الفجر متأخراً فلقيته في الطريق فقال لي مازحاً: لماذا تتأخر عن الصلاة؟ فقلت خشيت أن أتقدم فلا أراك فضحك وقال أفحمتني يكفي لن أسألك بعدها.
ومن مواقفه الطريفة أيضاً أنه ابتنى مسبحاً في بيته وبعد أن حاسب الشركة بعد اكتمال المسبح جاءه رجل من الشركة وطرق بابه ففتح له وأدخله فأخذ الرجل يشتكي ويبين أن بناء المسبح متعب ومكلف وطلب من الدكتور محمد زيادة في الأجرة فوق ما أخذه بحسب المتفق عليه، فقال له الدكتور محمد - رحمه الله - تعال خارج البيت لنتفاهم، فلما خرج الرجل أغلق الباب خلفه وتركه، فضحكت طويلاً وسألت الدكتور ماذا فعل الرجل؟ فقال ضاحكاً يبدو أنه لم يستوعب الموقف فمضى.
وكان الدكتور محمد - غفر الله له - يقول كلما رآني لماذا لا تأتي عندنا لتسبح معنا؟
وله قصة طريفة جداً مع سائقه الخاص ذكرها لي مرة حين أمره بتشذيب الشجر في بيته وخرج لعمله، فما كان من السائق لجهله إلا أن شذب النخل ولم يترك فيه عسيباً إلا قطعه حتى بدا النخل في منظر مضحك، فلما عاد الدكتور استقبله السائق فرحاً بما فعل، ولك أن تتصور طرافة الموقف وما حصل بعده.
وكان واصلاً متواضعاً لا يهجر أصدقاءه وكبار السن الذين عرفهم، فقد كان يزور أبي وعمي ويجلس معهما ويحادثهما رغم أنهما أميان لا يقرآن ولا يكتبان، وكان يسألني عنهما كلما رآني ويبلغني السلام عليهما حتى بعد أن انتقل لبيته الجديد في حي الفلاح لم ينسهما وكان يأتي إلى بيتي مسلماً وزائراً.
ولم ينس عند إصداره أي كتاب له أن يقدم لي نسخة عليها إهداؤه بخطه الجميل المرتب وعباراته الفخمة المحكمة. ومن مواقفه مع طلابه التي حدثني عنها أنه قرر على طلاب الدراسات العليا ستة كتب يقرؤونها ويعلقون عليها ثم يعرضون نقدهم لها بين زملائهم فكأنهم تكاثروها فجعلها أربعة، وبعد أيام جاؤوا له في مكتبه طمعاً في تخفيضها إلى اثنين متعللين بكثرة البحوث والتكاليف وضيق الوقت فتركهم يتحدثون حتى انتهوا ثم قال لهم: إذن تكون ستة كما سبق ولم يتراجع عن قوله أبداً، فسألته لماذا لم تتركها كما هي؟ فقال هؤلاء طلاب دراسات عليا وعليهم أن يتعودوا على البحث والاطلاع والقراءة المستمرة حتى يثقفوها، وأردتهم ألا يركنوا إلى هوى النفس فيستمرئوا الكسل والدعة. فكان - رحمه الله - حكيماً جاداً ويريد زرع ذلك في نفوس طلابه.
وكان يحدثني أحياناً عن مناقشته لرسائل الماجستير والدكتوراه وكيف أنه يرفض بعضها حتى إن طالبة مرة بكت حين رد رسالتها فقلت لماذا يا دكتور لم تسجل الملحوظات وتطلب تعديلها منها؟
فقال كلمة لا زالت عالقة في ذهني: يجب أن يعي طالب الدراسات العليا أنه باحث وعليه أن يحقق معنى هذه الكلمة بالبحث الجاد بأدواته المعروفة.
وذكر لي أن الباحثة عملت بما قال واجتهدت واجتازت الرسالة.
وقد عرف الدكتور محمد السديس -رحمه الله - بغيرته الدينية ومنافحته عن الحق ولم يتردد في الصدع به أبداً وأتذكر مرة أن بعض أساتذة كلية الآداب رشحوا روائياً عربياً مغربياً لجائزة كبيرة في السعودية عن روايته الفاضحة وقد سألني عنه وعن روايته وكنت قد ابتعتها من الخارج وقرأتها فقلت له سأعيرك الرواية واقرأها ثم أحكم بنفسك عليها فأخذها مني وبعد قراءتها قال لن يترشح هذا العمل السيئ مطلقاً فرفضها في مجلس القسم بقوة وحزم حتى تحقق رأيه ومنعت من الترشح وأسأل الله أن يكون ما قام به في ميزان حسناته.
ورغم تقصيري في زياراته بعد انتقاله لبيته الجديد وانشغالي بعملي، فإنه لم ينسني بزيارة أو دعوة لزواج أحد أبنائه أو بناته أو يتصل بي هاتفيا وكنت أبادله الاتصال مرة بعد أخرى وأتواصل مع أبنائه أثناء مرضه للسؤال عنه وخاصة ابنه سليمان الذي يخبرني عن أحوال والده الصحية حين سافر لأمريكا للعلاج.
وقد زرته قبل سفره الأخير في بيته وجلست معه بصحبة آخرين وكان يسأل عن أبي وعمي والجيران وكيف هم، وعن أهلي وأولادي حيث كانت زوجتي وزوجته تعملان في مدرسة واحدة لسنوات طويلة.
مكثت عنده نصف ساعة ثم غادرته داعياً الله أن يمن عليه بالشفاء، لكن الله أراد له غير ذلك فسافر مرة أخرى للعلاج، وكنت أتصل بولده سليمان هناك وأطلب منه أن يسمح لي بمكالمة والده فاعتذر لصعوبة حالته الصحية ووضعه الحرج، وقال إن تحسن فسأتصل بك لتكلمه لكن الله شاء أن يدخل في غيبوبة بعدها حتى توفي -رحمه الله رحمة واسعة.
تلك بعض الذكريات والمواقف مع أستاذي وأبي وأخي وصديقي الدكتور محمد السديس - رحمه الله - وهي غيض من فيض من الذكريات عن رجل علم وفضل امتدت سيرته في السلك الجامعي سنوات طويلة حافلة بالنشاط والإبداع والإصدارات والمقالات والدراسات المنشورة في المجلات المتنوعة، وقد خلف إرثاً كتابياً كبيراً، فليت أبناءه يتولون جمع نتاجه ونشره، أو تتبنى جامعة الملك سعود أو نادي الرياض الأدبي ذلك، أو إصدار كتاب يتناول سيرته وجهوده العلمية.
وكذلك عقد ندوة يشارك فيها عدد من زملائه في الجامعة ممن عاصروه وعرفوه وتلاميذه الذين درسهم,
وليت كلية الآداب تسمي إحدى قاعاتها باسمه تخليداً ووفاء له, وهذا قليل في حق هذا البروفيسور العلم الذي تتلمذ على يديه عدد كبير من أساتذة الجامعات اليوم.
رحم الله أستاذنا الدكتور محمد السديس وغفر له وتجاوز عنه وفتح له أبواب الجنان كلها.
وخالص العزاء لأسرته وأولاده وأهله ولمحبيه وزملائه وتلاميذه.
د. عبدالرحمن العتل - الرياض