يسعدني نشر ترجمتي لهذه الدراسة الفريدة والنادرة والهامة وهي للبروفيسورة التونسية مليكة زيغال (م. 1965) والتي تعمل حاليا كأستاذة مشاركة للفكر الإسلامي المعاصر في جامعة هارفارد الأمريكية العريقة. وهي دراسة مرجعية شهيرة يُستشهد بها على نطاق واسع أكاديميا ونشرت بالإنكليزية عام 1999 في إحدى الدوريات المتخصصة. وكانت زيغال قد أصدرت في عام 1996 كتابها الهام بالفرنسية: (حراس الإسلام: علماء الأزهر في مصر المعاصرة)، وأصدرت عام 2005 بالفرنسية كتاب (الإسلاموية في المغرب: الدين، الاستبداد، والسياسة الانتخابية). وهذه الدراسة ستشكل الفصل الثالث من كتاب مترجم هام يحمل نفس العنوان سأصدره في عام 2016 بحول الله. انتهى التقديم.
الأزهر والسياسة (1952-1994)
نُشرتْ كتاباتٌ كثيرةٌ، منذ ثمانينيات القرن العشرين، عن بزوغ الحركات الإسلاموية في الشرق الأوسط. (1) وتقدّم هذه الكتاباتُ أسبابا مختلفة لظهور أنواع جديدة من حركات المعارضة للأنظمة السياسية في المنطقة. فقد ظهر المتطرفون الإسلامويون في السبعينيات كلاعبين سياسيين جدد، وملأوا الفراغ الذي تركته المعارضة اليسارية. ولم تتوقع ظهورهم نخبُ الدولة التي كانت قد بدأت في وقت سابق عملية تحديث وإصلاحات سياسية واجتماعية، ولم يتوقع هذا الظهور أيضا علماءُ السياسة الذين تستند أبحاثهم إلى فرضيات نظرية التحديث(*). فقد توقّعت النخبة الحاكمة أن سياسات تحديث المؤسسة الدينية وإصلاحها ستعزز سيطرة الدولة على المجال الديني، وتوقّع علماء السياسة أن تحديث المجتمع سيؤدي إلى علمنته. المفاجأة التي نتجت عن هذه الظاهرة السياسية الجديدة دفعت المراقبين إلى التركيز تركيزا رئيسا على الإسلامويين والتغاضي عن دور علماء الدين الذين اعتبروهم خاضعين كليا للدولة.
هدف الدراسة
تهدف هذه الدراسة(2) إلى تسليط الضوء على الرابط بين التغيير البنيوي الذي فرضته النخبة الحاكمة على الأزهر وبين ما نتج عنه من تحوّل في السلوك السياسي للعلماء. ويظهر الجزء الأول من هذه الورقة أن مشروع تحديث الأزهر، الذي صدر كقانون عام 1961، أدى إلى نتائج عكسية غير مقصودة. لقد كان الهدف المعلن من الإصلاح هو تطوير العلماء ودمجهم في الجزء الحداثي من المجتمع؛ ولكن، بدلا من تحقق ذلك الهدف، كانت أبرز نتيجة وأكثرها شمولا هي بزوغ سلوك سياسي جديد بين العلماء. وأجادل، هنا، أنه إذا كان تأميم هذه المؤسسة الدينية محل استياء معظم العلماء ولا يزال كذلك؛ فإن الشكل والأسئلة التي نتجت عنه في ذلك الوقت كانت لها عواقب طويلة المدى غير متوقعة على الهُوية الاجتماعية والسياسية للعلماء. إن جوهر حجتي هو التالي: لقد أُجبر العلماء على استيعاب تغييرات ساحقة؛ ولكن النظام الناصري، من خلال (التحديث) الإصلاحي الذي قام به، كان مضطرا أيضا للتكيّف مع عقلية العلماء بتنفيذ إصلاح هائل في حجمه وغامض في جوهره ومجهول العواقب. ومن ثَمَّ، لا يمكن أن يُنظر إلى سلوك علماء الأزهر فقط كرد فعل على سياسة عبد الناصر تجاه المؤسسة الدينية المصرية، ولا يمكن وصفه فقط بأنه خضوع للدولة فحسب. وعبر منح الأزهر احتكارًا للدين تحت سيطرة الدولة، فإن النظام الناصري أخضع العلماء بالفعل وأجبرهم على الاستسلام السياسي الكامل للدولة خلال الستينيات؛ ولكنه منحهم في الوقت نفسه – وهنا المفارقة الكبرى - الآليات اللازمة لبزوغهم السياسي في السبعينيات. وهكذا، أدى نظام الستينيات الناصري دورا رئيسا في إعادة تشكيل وظيفة الأزهر في المجال العام في النصف الثاني من القرن العشرين.
إنني أنسب هذا التحول في سلوك العلماء السياسي إلى التغييرات التعليمية التي فرضتها الدولة على الأزهريين؛ فإدخال المواد الحديثة في المناهج الأزهرية في عام 1961 بَدَّلَ البيئة المعرفية للعلماء، عبر إجبارهم على التعامل مع انقسام ثنائي (Dichotomy) للمعرفة: الحديثة مقابل الدينية. حقا، لقد خلخل تحديث الأزهر طبيعته وهُويته الدينية، وهي الهُوية التي سيناضل العلماء لاحقا لاستردادها من خلال دخول الساحة السياسية. وعلى الرغم من التأثير السلبي المتوقع لعملية تحديث الأزهر وإصلاحه على نشاط العلماء السياسي؛ إلا أن تلك العملية تسبّبت في تحوّل راديكالي لهُويتهم السياسية، لأنها قدّمت لهم - عن غير قصد – منتدىً سياسيا، فضلا عن عذر وتبرير قانوني لتوسيع مؤسستهم التعليمية توسيعا هائلا. وفي الحقيقة، وكما سنثبت في الجزء الثاني من هذه الورقة، فقد حاول الأزهر كمؤسسة دينية – ضمن الإطار السياسي للسبعينيات والثمانينيات - المشاركة في المناقشات العامة التي نتجت عن بزوغ الحركة الإسلاموية المتطرفة. وهكذا، برز الأزهر مجددا كلاعب سياسي، وبدأ يتدخل في النقاش العام؛ لأن الساحة الدينية أصبحت أكثر تنافسية، ولأن الإسلامويين تحدوا شرعيته الدينية بصورة مباشرة وعلنية، غير أن فشله في إسماع صوته في منتصف السبعينيات كان يعود إلى تنوع سياسي متنام داخل سِلْك العلماء. لقد ظهر (علماء الحافة)(**) (Peripheral Ulema)، ونأوا بأنفسهم عن السلوك الرسمي الأزهر من خلال ممارستهم للدعوة عبر الوعظ وأدخلوا أفكارا إسلاموية (الإسلام السياسي) مختلفة إلى الأزهر. وبالإضافة إلى ذلك، أدى بزوغ العنف على الساحة المصرية في النصف الثاني من الثمانينيات إلى استعادة معظم العلماء الرسميين وظائفهم كوسطاء وسماسرة سياسيين. ونتيجة لتلك الوضعية، فَقَدَ الأزهر الطبيعة الاحتكارية للدين التي منحها عبد الناصر له، وتحوّل إلى هيئة تعددية متنوعة تتنافس الآن مع علماء دين آخرين في (السوق الدينية). وأصبحت فكرة احتكار الأزهر للتفسير الديني محل تساؤل اليوم، حتى بين العلماء الرسميين البارزين في الأزهر الذين يعترفون بالتعددية في الفكر الديني. وكما يجادل الباحثان ديل إيكلمان وجيمس بيسكاتوري حول الإسلام المعاصر: و(أصبح أهم ما يميز السياسات الإسلامية المعاصرة هو التجزئة والتقسيم للسلطة؛ فالعلماء ما عادوا يحتكرون السلطة المقدسة، بل أصبح مشايخ الصوفية والمهندسون والبرويسورات والأطباء والضباط وقادة الميليشيات وغيرهم يتنافسون للتحدث باسم الإسلام. وعبر هذه العملية، أصبح الملعب أكثر استواء وانبساطا؛ ولكنه أصبح أيضا أكثر خطورة).(3) وفي الواقع في حالة مصر - كما ستثبت هذه الورقة - ترتبط زيادة الانقسام السياسي في كتلة العلماء، فضلا عن زيادة قوتهم، ارتباطا وثيقا مع بزوغ الصراع والعنف على الساحة السياسية.
الفكرتان المحوريتان اللتان استندت إليهما الدراسات السابقة عن العلماء تكمنان في:
(أ) التحديث (أو التنمية)، وهي عملية تهدف إلى إضعاف المؤسسات التقليدية المحافظة؛ و
(ب) العلمنة، والتي نعرفها هنا باستيلاء الدولة على الوظائف التي تؤديها تقليديا المؤسسة الدينية.(4)
وجرى تحليل سلوك العلماء وتصنيفه كرد فعل على هذه الاعتداءات الخارجية، وليس كمساهم في ذلك التغيير الاجتماعي مطلقا. وانتقدت جماعة الإخوان المسلمين، منذ تأسيسها في عام 1928 وباستمرار، الأزهر وعلماءه لضعفهم السياسي والفكريّ؛ حتى مع وجود ألفة وود فرديين بين بعض العلماء وجماعة الإخوان المسلمين.(5) ولأكثر من عقدين من الزمن، اعتبرت المعارضة الإسلاموية، فضلا عن معظم الدراسات السياسية عن مصر، الأزهر كمؤسسة خاضعة خضوعا مفرطا للحكومة، وغير قادرة على أداء دور سياسيّ أو دينيّ مستقل. وركزت الدراسات الأكاديمية للوضع السياسي والفكري لعلماء المسلمين في القرن العشرين على فشلهم في استيعاب الحداثة. ونظرا لعدم اعتبارهم رجال عمل أو مبتكرين فكريا، صوّر المؤرخون وعلماءُ الاجتماع العلماءَ المتعلمين في الأزهر كعناصر تقليدية غير قادرة على التعامل مع التغيير الاجتماعي، وبخاصة مع بزوغ العلمانية في مصر، ووصفوهم بأنهم منهمكون في تراجع سياسيّ وفكريّ عن المجالات الحداثية للمجتمع منذ قرن محمد علي، ونظروا إليهم أنهم قبلوا على مضض بالتغييرات المخيفة التي فرضها عهد الخديوي إسماعيل على مؤسستهم. وارتبط ضعف منزلتهم كـ (سماسرة سياسة) بفقدانهم التدريجيّ للقوة الاقتصادية والسياسية خلال القرن التاسع عشر، كما أكد الباحث دانيال كريسيليس (6). واُستعمل النمط نفسه لوصف العلماء في مصر المستقلة: فقد سدّد النظامُ الناصريّ ضربة قاضية إلى العلماء عبر تأميم الأوقاف في عام 1952، وعبر استبعادهم من المحاكم في عام 1955، وأخيرا عبر مشروع إصلاح الأزهر نفسه. ووصف دانيال كريسيليس، في عام 1972، التراجع السياسي للعلماء على النحو التالي: (لقد كانوا غير راغبين أو غير قادرين على صنع تغيير أو حتى استيعابه عندما يأتي... ما أدى، في النهاية، إلى أن يغمرهم التغيير حتميا بعدما اخترق أولا الحكومة والنخب الحاكمة، ثم مؤسساتهم الخاصة والفئات الاجتماعية الأخرى). (7) ولم يكن مشروع إصلاح الأزهر عام 1961 - في الحقيقة – الضربة القاضية للعلماء، لأنه لم يلغ المؤسسات الدينية؛ بل كان تحديث عبد الناصر للأزهر، على العكس من ذلك، وسيلة للرئيس للسيطرة سيطرة محكمة ومباشرة على المؤسسة الدينية والاستيلاء على وظيفتها الدينية، بدون أن يجعلها تختفي من الحياة العامة. ونقّح كريسيليس، لاحقا، وصفه لإصلاح الأزهر عام 1961، عبر التأكيد على الروابط القوية بين النظام الناري والدين.(8) وعلى المدى الطويل، ساعد تطوير (تحديث) الأزهر على بزوغ العلماء، لاحقا، على الساحة السياسية والاجتماعية. ويعدّ هذا (التحديث) مفتاحا حاسما يساعد في فهم العلاقة الإشكالية الحالية بين الدين والسياسة في مصر.
الغموض ونتائج مشروع إصلاح الأزهر
وصف النظام الناصري نفسه، في عام 1961، بأنه– ببساطة – مضطر إلى إجبار المؤسسة الدينية على قبول التحديث. (9) وحرص هذا النظام على عرض صورة العلماء أمام الناس كـكائنات اجتماعية تقليدية متخلفة يجب أن تتطور قسرا عبر إصلاح راديكالي، لتنسجم مع المجتمع الحديث؛ وذلك بهدف شرعنة مشروعه لإصلاح الأزهر، على أمل أن يؤدي ذلك الإصلاح إلى سيطرة الدولة على سِلك العلماء. وجادل النظام أن العلماء لم يتمكنوا من تحديث مؤسستهم بأنفسهم أو قبول الإصلاحات المؤقتة التي فرضتها الدولة أو أقلية من الإصلاحيين الأزهريين منذ القرن التاسع عشر. حلّل العديد من الباحثين رد فعل الأزهر وعلمائه على التحديث واستنتجوا ما بدا لهم (ظاهريا)، أي أن العلماء لم يقدروا على القيام برد أيديولوجي على هذا العدوان. ومن ثَمَّ، استمروا في إنتاج إسلام تقليديّ ومحافظ يركز، كعادته، على حفظ التراث الإسلامي وإضفاء الشرعية على السلطة السياسية القائمة.
...يتبع
** ** **
هوامش المترجم:
(*) أي إن عملية التحدث تؤدي إلى علمنة المجتمع وإضعاف دور الدين؛ وهي نظرية مشكوك في صحتها، خاصة في العالم العربي وتحديدا في مصر كما ستثبت هذه الدراسة. (العيسى)
(**) يقصد بعلماء الحافة (Peripheral Ulema) هنا العلماء غير الرسميين أي الذين لا يتلقون مرتبات من الدولة. (العيسى)
ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب
Hamad.aleisa@gmail.com