أتناول هنا استخدام الرمز في الحكاية الشعبية من خلال ثلاث حكايات شعبية من مجموعة «أساطير شعبية من قلب الجزيرة العربية» والتي قام بجمعها الرائد وسابق عصره الشيخ عبد الكريم الجهيمان - رحمه الله -، وأُركّز على الرموز الدالة على التحليق والطيران باختلاف دلالاتها وتوظيفها في الحكايات.
اختار الجهيمان - رحمه الله - لعمله الموسوعي عنوان: «أساطير شعبية من قلب الجزيرة العربية» وجمع فيه الحكايات الشعبية وبعض قصص الأمثال والأشعار في خمسة أجزاء.. وهو عمل جبار حفظ الكثير من التراث الشفهي، ولا بد أن يُتبع بعمل مؤسسي - علمي المنهج -، وبأسرع وقت قبل أن يتدارك الموت كبار السن ممن سمع وحفظ هذه الحكايات.. وعلى الرغم من أنه أطلق عليها الأساطير إلا أنها حكايات شعبية، وليست أساطير كما عرّفها الجهيمان بنفسه في مقدمة عمله، وهي مقدمة موجزة ولكنها بليغة وثرية وتوضح أن الجهيمان مدرك وواع أن النوع الأدبي المدون في مجموعته «حكايات شعبية» فهو يعرِّفها «أما أوقات فراغهم - على قِلتها - فإنهم كانوا يقضونها نهاراً في الراحة أو بعض ألعاب القوى.. وأما الفراغ في الليل فقد كانوا يقضونه في الحكايات والأساطير التي يصوغون فيها أحلامهم وأمانيهم ويحلقون بها في أجواء السماء.. وينطلقون بها إلى شتى أقطار الأرض..» (الجهيمان،11).. وبهذا نجد أنه أطلق عليها الحكايات والأساطير بينما هي حكايات شعبية، فالأساطير تخص قصص الآلهة وأنصاف الآلهة وهي شكل من أشكال التفكير الروحاني للإنسان ومحاولة لتفسير الظواهر الطبيعية والتوصل لتفسير الكون.. (العبد المحسن،53) فالحكايات الشعبية تدور في محيط حياة المجتمعات وتهدف كما أشار الجهيمان إلى «علاج بعض المشاكل الاجتماعية بطريق التلويح.. أو بطريق محاورة بين جماد وحيوان أو بين جماد وجماد.. وفي بعض الحالات يجعلون تلك الحِكم والتجارب تنطلق من لسان أبله أو مجنون» (الجهيمان،ج1،11) مما يدل على أن الجهيمان كان واعياً أن ما جمعه هو حكايات شعبية، ولعل استخدامه لمصطلح أساطير شعبية جاء مجازاً.
وبيّن الجهيمان - رحمه الله - مصادره في جمع هذه الحكايات من خلال تصديره لبعض الحكايات بإسناد الرواية وإيراد اسم القاص وصلته به بكل وضوح «رويت هذه السالفة عن الأستاذ الفاضل الأخ إبراهيم السدحان وكتبتها بأسلوبي الخاص وأثبتها هنا كما ترى» (الجهيمان،ج1،237) «هذه السالفة رويت أصلها عن زوجتي العزيزة نورة بنت ناصر العوفاني. وصفتها بأسلوبي الخاص وأثبتها هنا..» (الجهيمان،ج1، 211) ومن حسن حظي أنني توفقت في سماع الكثير من هذه الحكايات من جدتي، وعمة والدي حين كنت طفلة ويافعة، وذلك بين القصيم والرياض.. وقد أقلقني حين كنت صغيرة الفروق بين ما سمعته وقرأته في أساطير الجهيمان على الرغم من أن الجهيمان - رحمه الله - يؤكد في مقدمته «وهذه هي المجموعة الأولى من الأساطير الشعبية، صُغتها بحسب ما سمعتها لم أزد فيها ولم أنقص منها وقد جعلتها بأسلوب عربي ليفهمها القارئ العربي في كل قُطر من أقطار العروبة..» (الجهيمان،12) كما أن الجهيمان يستخدم مصطلح «سبحونة» للدلالة على الحكاية وفي القصيم يستخدم مصطلح «سبحانية».. وقد يكون الاختلاف بين ما سمعته ورواه الجهيمان عائداً لتدخلات الرواة، فراوي الحكاية الشعبية يزيد فيها وينقص حسب ذاكرته وحسب مستمعيه، وقد شهدت بنفسي تغيير إحدى السيدات سردها لحكاية شعبية لوجود صغار سن في المتحلّقين حولها لاحتواء الحكاية على ما لا يناسب سنهم الصغير.. كما قد يعود الاختلاف في الروايات بسبب اختلاف المناطق فالجهيمان - رحمه الله - نشأ في منطقة الوشم، وممن سمعت عنهن الحكايات عشن في منطقة القصيم.
سيتم فحص الرمز في الحكايات التالية : «سبحونة القطية» و»سالفة محسن مع الساحرتين» ثم «سبحونة الأمير المشرد» حيث يجمع بينها استخدام الرموز الدالة على الطيران والتي أكد الجهيمان في مقدمة الجزء الأول والثالث على تضمين الحكايات الشعبية أمنيات الناس بالطيران والوصول إلى أماكن بعيدة.. ويوضح الجهيمان منهجه في التمييز بين السبحونة والسالفة «وعناوين هذه الأساطير تنقسم إلى قسمين: قسم بعنوان سالفة ومعناها الحادثة الماضية التي سلفت وانتهت، والقسم الثاني بعنوان سبحونة وهذا الاسم مشتق من مطلع الأسطورة ومبتداها الذي يكون غالبا بذكر الله وتمجيده وتسبيحه.. ومن هذا الافتتاح اشتقت التسمية» (الجهيمان،ج 1، 12) ولعله من المناسب هنا التعليق على بدء القصص بذكر الله والذي يشترك في هذا الموروث أكثر من تراث عربي، وكأنه تمهيد للمستمع لما قد يسمعه مما يتنافى مع معتقداته الدينية وتبرئة للراوي من الملامة في نقل هذه الحكاية.
تدور سبحونة «القطية» (أساطير الجزيرة العربية، الجزء الأول، ص 31) حول فتاة اسمها زينب تتوفى أمها فيتزوج والدها ويرزق من زوجته الجديدة بابنتين، يتبدل حال الفتاة حيث تقسو عليها زوجة الأب، يصطاد الأب في أحد الأيام ثلاثة من طيور القطا فيقدمها لبناته الثلاث. تطلب القطا المخصصة لزينب أن تطلق سراحها لتعود لصغارها ولكن زينب تخشى العقوبة، تطمئنها القطا بأنها ستحميها وتعلمها كلمة سر لاستدعائها. حالما يعلم الأب بفقدان زينب قطاتها يعاقبها ولكن القطا تحضر وتضع جناحها دون زينب وتحميها من الضرب. تمضي الأيام ويقرر أمير المدينة إقامة حفل لاختيار زوجة لابنه الوحيد. تتوافد كل النساء على الحفل ما عدا زينب التي تعطيها زوجة والدها قمحاً لتطحنه على الرحى. تستدعي زينب القطا التي تجهزها للحفل وتطلب منها العودة في منتصف الليل. تترك زينب الحفل على عجالة وتفقد حذاءها الذهبي في عجلتها والذي يقود ابن الأمير إليها ليتزوجها.
أما سالفة «محسن مع الساحرتين» (الجزء الأول، ص 255) فتدور حول محسن الذي ترك بلده بحثاً عن الرزق ليعرض عليه أحدهم العمل خادماً في أحد البيوت الذي تسكنه فتاتان تتمتعان بثراء فاحش. بعد أن استقر المقام بمحسن في خدمة الفتاتين بدأ الفضول يتسلل لنفسه عن مصدر ثرائهما.. وبدأ في مراقبتهما إلى أن اكتشف قيامهما بمغامرة ليلة هي ركوب جذع نخلة أجوف والطيران فيه. يختبئ محسن في الجذع ويصاحبهما في رحلتهما إلى أرض مملوءة بالجواهر والذهب حيث يملأ جيوبه منها. حين يعود معهما يقرر العودة لبلده ليعيش مستمتعاً بالثراء جراء بيع الجواهر.
والسبحونة الأخيرة تحت البحث هنا هي «سبحونة الأمير المشرد» (أساطير الجزيرة العربية، ج1، ص 351) وهي تسرد مغامرة أمير عادل يثور عليه أبناء عمه ويغتصبون الحكم منه ويهرب مشرداً في الصحراء وحين يرى أسداً يطارد غزالاً صغيراً يقرر الانتصار للفريسة ويسدد سهمه للأسد ليقتله وينقذ الغزال. بعد فترة يقابل شيخاً يطلب منه مشاركته أعمال التجارة ويشترط عليه أن لا يسأله في أي أمر يُبرمه. يوافق الأمير المشرد فيحضر الشيخ راحلة يركبانها معاً. يتفاجأ الأمير بخروج أجنحة للناقة وطيرانها في السماء حتى تحط في بغداد.. وفي سلسلة من الأمور العجيبة يستطيع الشيخ رفع أمر الأمير حتى أوصله للخليفة وزوجه ابنته. يحن الأمير المشرد لدياره في الصحراء ويخبر الشيخ الذي يقرر إعلامه بحقيقة أمره وهو أنه والد الغزال الذي أنقذه من الأسد وقرر مكافأته على نبله.
نجد أن القاسم المشترك في الرموز المستخدمة في الحكايات الثلاث هو الطيران، ما بين طائر يقوم بفعل خارق كما في سبحونة القطية، وبين طيران ناقة بأجنحة مستحدثة وطيران جذع نخلة مجوف. فالرمز في القصة الأولى وهو القطاة قد يدل على روح الأم التي تحمي ابنتها من غضب زوجة الأب، وفي كثير من أساطير وحكايات الشعوب تدل الطيور على الأرواح سواء أرواح الأموات أم الأحياء.. وقد تدل أيضاً على أمنيات الفتاة بالهروب من حياتها القاسية والظلم الموجه ضدها.. لا سيما وأن القطاة تحضر في أحلك ساعات الفتاة بؤساً وذلك حين ضرب والدها لها «فما كان من الأب إلا أن أخذ زينب من يدها وأدخلها غرفة مظلمة وجاء معه بعصا فصار يضرب بها زينب ضرباً مبرحاً وكانت زينب عندما أحست بدنو الخطر قالت كلمة السر فحضرت القطاة وصارت تقي زينب بجناحها فلا تحس بوقع العصا على جسمها.. لأن القطاة تتلقى تلك الضربات فلا يصل إلى زينب منها أي ضرر أو ألم.. ثم بعد الضرب أقفل عليها والدها في تلك الغرفة القذرة المظلمة وتركها وحيدة وأقسم أن يتركها أسبوعاً كاملاً في هذا المكان وأن لا يعطيها في النهار إلا وجبة واحدة وكانت زوجته تشجعه على هذا التصرف.. وبقيت القطاة بجانبها في محنتها هذه لأنها هي السبب فيها فنظفت القطاة تلك الغرفة ورشتها بأنواع المطهرات وجعلت منها ملاذاً مريحاً تهدأ فيه أعصاب زينب.. وصارت القطاة تأتي إليها بأنواع المأكولات والفواكه والحلويات.. والقطاة طيلة المدة بجانبها تؤانسها وتقص عليها مختلف القصص وتأتي إليها بالمسليات» (الجهيمان،39) وحين ألزمتها زوجة أبيها بالبقاء وحيدة تدير الرحى - ودوران الرحى هنا رمز للدوران في دوامة الأزمة - ومنعتها من حضور الحفل دون جميع بنات المدينة تستدعي زينب القطاة لتنقذها من مأساتها «واستمرت في الطحن خوفاً من زوجة أبيها.. التي لا تعذر ولا ترحم ولكنها أخيراً لم تستطع كبح جماح تلك الرغبة الجارفة لديها.. في حضور هذا الحفل الذي قد لا يجود الزمان بمثله في مستقبل الأيام.. فقالت كلمة السر وبأسرع من لمح البصر حضرت القطاة.. ثم عطّرت جسمها كله بنوع فاخر من أنواع العطر!!.. ثم أخذت تلبسها تلك الملابس الفاخرة التي أحضرتها لها والتي لا وجود لمثلها في جميع أنحاء تلك المملكة.. وألبستها حذاءً ذهبياً وأحضرت لها حصاناً أشقر يجر عربة مذهبة»(الجهيمان،42). إن شدة الشعور بالأسى والشفقة على النفس لا يطيبها إلا حضوراً سحريالقطاة تنشر جناحها على الفتاة لتحميها من ضرب أبيها أولاً، ثم تجهزها وتنقلها في عربة مذهبة إلى الحفل تالياً.
وفي تحليل حكاية «القطية» نجد أنها تقع ضمن نموذج حكايات سندرلا والتي وجد منها مئات التنوعات في مختلف الثقافات وبقاع الأرض.. وهي نموذج واضح حيث تحتوي على العناصر الأساسية لقصة سندرلا، وهي:
- الابنة اليتيمة الأم المضطهدة.
- المعونة السحرية.
- اللقاء مع الأمير.
- إثبات هوية خاص بالفتاة.
- الزواج من الأمير وانتصار الخير على الشر.
كما أنها تتضمن استخدام العدد ثلاثة فالبنات ثلاث، وهذا نمط مستخدم في الحكايات الشعبية عالمياً.
وحكاية» القطية» تثير الاستغراب فهي مروية عن طريق الجامع عبد الكريم الجهيمان - رحمه الله - ولم يصدرها بأنه سمعها عن أحد أصدقائه أو أقاربه كما في الحكايات الأخرى.. ونحن نعلم أن الجهيمان كان ذا إطلاع وسفر. هل قرأ حكاية سندرلا واختلطت عنده مع حكايات سمعها في صغره؟ لا سيما وأن سبحونة «القطية» تحوي عناصر قد لا توجد في المجتمع النجدي حينذاك: منها الحفل الراقص للنساء بوجود الأمير، ردهة الرقص والموسيقى، ارتداء الساعة على المعصم.
تحلق الأماني في سالفة «محسن مع الساحرتين» على شكل جذع نخلة ينقل محسن مع الساحرتين إلى أرض أشبه ما تكون جنة الفردوس الموعودة.. وفي هذه الحكاية يتجلى حلم البشرية بالطيران والذي حققه العلم الحديث، وهو حلم طالما اتضح في مختلف الإنتاج الأدبي الفردي أو الجماعي للشعوب. يطير الجذع حالما تأمره إحدى الساحرتين بذلك وهنا تتشكّل رغبة الإنسان بالتحكم في محيطه «فتلتا طلاسمهما وحروفهما المقطعة.. ثم قالتا بصوت واحد طر بأنثاوين وذكر فتحرك الجذع. ارتفع عن الأرض قليلا قليلا.. حتى صار فوق البيوت ثم انطلق الجذع يحلق بهم في أجواء السماء..» (الجهيمان، 260)
أما في «سبحونة الأمير المشرد» فنجد أن الراحلة تتحول إلى كائن بجناحين يطير بالأمير والشيخ ليحط بهما في وقت قصير في بغداد «جاء الشيخ بهذه الراحلة حتى أناخها بقرب الأمير.. وقال له اركب على الشداد في المقدمة.. فقال الأمير معاذ الله بل المقدمة لك يا سيدي.. فأنت أكبر سناً وأحق بالتقديم.. فقال الشيخ ألم أقل لك لا تعارضني في أي تدبير أدبره.. حرّك الشيخ رجله فتحركت الراحلة وسارت.. ثم أخرج الشيخ قصبة من إحدى الحقائب فغرزها في أحد جنبي الراحلة.. ثم أخرج قصبة ثانية فغرزها في الجانب الآخر.. فانقلبت هاتان القصبتان إلى جناحين رفعا الراحلة قليلا قليلا عن الأرض حتى حلقت بهما في السماء.. بعد فترة وجيزة من الزمن لم يشعرا إلا بالراحلة تحط بهما في ضاحية من ضواحي بغداد..» (الجهيمان،256).. وهكذا تتجلى أمنية الأمير العادل والمشرد في الصحراء في الهروب من واقعه المؤلم في راحلة تتحوّل إلى طائر خرافي بجناحين.. ولا غرابة في استخدام رمز الجمل الطائر هنا فقد أشار العبد المحسن في دراسته الفذة (تداعيات الواقع في الحكايات: أساطير الجهيمان نموذجاً) إلى أن «تشكل الإبل رموزاً أسطورية عند العرب، تظهر بوضوح في اعتقاداتهم المختلفة، فقد اتخذت طّي جملاً أسود تعبده.. وهناك من اعتقد بأن بعض الإبل تحدرت من نسل إبل الجن، وهي الإبل «الوحشية».. (العبد المحسن،123) وعبد الكريم الجهيمان يؤكد المرة تلو الأخرى اتخاذ الأماني في حكايات الشعوب رموزاً تتجلى فيها رغباتهم «قد يقول معترض وما الخير والنفع في هذه الخرافات التي تسلي بها العجائز أولادها.. ويملأ بها الفارغون أوقاتهم.. ويتعلل بخيالاتها الفاشلون في الحياة؟؟!
وأنا أقول لمن يعترض بهذا الاعتراض رويدا!! رويدا!! إنني أنا وأنت قد لا نقدِّر هذه الأساطير حق قدرها.. وقد نرى فيها رأيك.. ولكن العارفين بشؤون الحياة يقولون غير ذلك..
يقولون إن أساس كل الصناعات كانت أحلاماً وخيالات ثم ما زال المفكرون يعملون المحاولة تلو المحاولة حتى أصبح كثير من تلك الأحلام والخيالات حقائق تتمتع بمنافعها البشرية ويجني ثمارها الخاص والعام.!» (الجهيمان، الجزء الثالث، 6). لقد كان جلياً لدى الجهيمان أن تلك الخيالات عبارة عن رموز تترجم رغبات وأمنيات أصحابها إما بالحماية والرعاية كما في «سبحونة القطية» أو بالانطلاق لتحقيق الأحلام واكتشاف المجهول كما في «سالفة محسن مع الساحرتين» أو بتحقيق العدالة كما في «سبحونة الأمير المشرد».. كما يؤكد الجهيمان أهمية وفائدة الأدب بمختلف أنواعه فهو الملهم للمخترعين والمبتكرين.
** ** **
المراجع
1 - الجهيمان، عبد الكريم. أساطير من قلب الجزيرة العربية - الرياض: دار أشبال العرب 2000م.
2 - العبد المحسن، عبد الله محمد حسين. تداعي الواقع في الحكايات: أساطير الجهيمان نموذجاً - الرياض،1426هـ.
فاطمة بنت محمد الحسين - الرياض