«تفطن عبد الناصر إلى أن ما رآه في حيه وجد له أشباها ونظائر في عالم الصحفيين والمثقفين الذين كان يجالسهم. فهم يشتغلون بمنطق العصابات والشبكات يتصارعون فيما بينهم باللفظ وأحيانا بالأيدي. عالم نميمة وضغائن واغتياب وكذب ونفاق ونرجسيات.. عالم بلا أخلاق موروثة تقليدية وبلا أخلاق جديدة تليق بحاملي القلم.. وجلهم لا يقرأ حتى الصحيفة التي يكتب فيها.. أما الكتب ومتابعة الجديد في الأدب والفكر والثقافة فهذا مطلب بعيد المنال»، هكذا يعبر عبدالناصر بطل رواية «الطلياني»، للكاتب التونسي شكري المبخوت التي نالت جائزة البوكر مؤخرا عن رأيه في الصحفيين والمثقفين الذين هو واحدا منهم.
ويعتبر أن: جرعات عالية من الثقافة والفن هي طريق للوصول للجنون ومعاقرة الخمر واليأس والإحباط والسأم وضروب من العدمية غير المبدعة والحياة البوهيمية حيث باح كما يقول صديقه الراوي العليم عالم الصحافة والثقافة لعبدالناصر بأسراره كلها وأصبح يراه مارستانا كبيرا دمر نزلاءه بالأكاذيب والأوهام والخمرة. فيما تعتبر بطلة الرواية «زينة»، التي يصفها البطل بأنها فيلسوفة خطيرة المثقف بأنه» من ينقد دون حسابات. ينقد كل شيء. يطلق النار على كل ما يتحرك.. يطرح الأزمة بالسؤال والاستفهام يخلخل السائد».
كما تسلط الرواية الضوء على ظروف دخول الطلياني لعالم الصحافة الثقافية بعد أن كان مصححا لغويا للغة الفرنسية في ذات الصحيفة وتوليه مسؤولية إصدار ملحق ثقافي وعلاقته الإيجابية برئيس التحرير «سي عبد الحميد»، التي ذللت له عقبات وأوصلته في النهاية ليكون مراسلاً لوكالة أجنبية. وقد سبقتها علاقات إيجابية أخرى خدمته كثيرا كانت بينه وبين رجل الأمن» سي عثمان»، ابن حيهم وبينه وبين شقيقه الأكبر صلاح الدين المغترب الذي ظل يغدق عليه بأوجه الرعاية ويمده بالمال.
وخلاف العديد من الروايات التي طالعت تبدأ رواية «الطلياني»، بموقف حاد متوتر وتصعيدي من البطل في يوم جنازة والده الذي لم يكن على وفاق تام معه وكأن الرواية بذلك تنطلق من الذروة وهو تكنيك جيد ينجح في شد القارئ منذ المستهل لكنه في الوقت ذاته يجعل المتلقي يترقب الكثير من التداعيات بعد جرعة التشويق الزائدة التي تصدرت المطلع.
وقد أجاد الكاتب في ضخ مفاصل روايته بجرعات تشويق لكنها لا تضاهي مجتمعة ما قدم به الرواية مؤجلا لحظة التنوير وكشف لغز حدث المطلع حتى الخاتمة التي بدت باهتة و أقل من التوقعات كاشفة عن تعرض البطل وهو طفل لتحرشات دفعته لضرب الجاني في المقبرة «الشيخ علالة الدرويش»، لحظة تشييع والده عندما استجد في حياته» مغامرته مع ريم»، التي ذكرته بجرم علالة.
تسرد الرواية سيرة حياة عبدالناصر المثقف اليساري والصحافي الذي حصل على لقب «الطلياني»، منذ الصغر بسبب وسامته اللافتة وملامحه الإيطالية المميزة التي تدفع النساء المحيطات بوالدته للتكهن عن مصدر هذه الوسامة، كما تعرض لزعامته الحزبية فترة دراسته في جامعة الحقوق وتغيير مساره المفترض من العمل في المحاماة للعمل الصحافي الثقافي غير أنها بالتوازي مع ذلك تعرض أيضا للعديد من الشخصيات التي تتقاطع معه بكثير من التفصيل يتجلى من خلاله مهارة في رسم الشخوص واستجلاء الباطن وإبراز الخصائص النفسية التي تجعل من شخصيات الرواية كائنات حية نابضة وإن كانت ليست على درجة كبيرة من التباين في ما بينها فهي تشترك مع البطل بشكل أو بآخر في ميوله اليسارية والغريزية المفرطة وإن كان نصيبه من البهيمية هو ونجلاء صديقة زينة التي يخونها معها والتي ينفر منها في الأخير بعد حالة شديدة من الانجذاب والتوله هو الأشد بين سائر علاقاته النسوية.
وتبدو «زينة»، الريفية القادمة من الطبقة المسحوقة والفتاة البربرية الفيلسوفة الطموحة التي تتقاطع طريقها وطريق البطل وترى فيه» ذاتا ثرية ودواخل جياشة» وترتبط معه «بصداق»، من أجل أن تتاح لها فرصة دخول الجامعة من أكثر شخصيات الرواية لصوقا بالذاكرة بعد الانتهاء منها، حيث يعرض من خلالها الراوي قصة فتاة طموحة تسعى جاهدة لتحقيق حلمها العلمي والعقبات التي تعترضها بسبب نشاطاتها الطلابية السابقة وبسبب كونها أنثى وقتل حلمها في النهاية على يد أستاذ رفضت تلبية رغبته الحسية.
وتعد زينة شخصية مركبة تعاني من آثار نفسية خلفتها حادثة اغتصاب جرت لها في الصبا وتبدو علاقتها بالبطل ملتبسة فهي تبدأ بشكل فاتن وصاخب ولا تلبث تلك العلاقة أن تذبل وتموت نتيجة شح نفسي وأنانية وحدة من جانبها وخيانات زوجية من جانبه تنتهي بها لطلب الطلاق منه بعد رسوبها والهجرة لفرنسا والاقتران بكهل فرنسي تزداد أخلاقها سوءا معه دون أن تحقق حلمها المنتظر.
وتكشف الرواية من خلال زينة المرأة المتحررة عن نظرتها لأطماع الرجال» لماذا تأبطت ذراعي منذ قليل في المكتبة؟ ليذهب في وعيهم أنني لست وحيدة وأنك صديقي أو صاحبي فالرجال كالذ باب يحطون على أول امرأة يرونها. لا تغرنك كثرة الحضور فجلهم يأتي للتظاهر بالثقافة والعلم وقصدهم الظفر بفريسة» ص71. وفي المقابل تبرم الرجل من لهاث المرأة العصرية في سبيل تحقيق طموحها وانشغالها عنه.
ويلحظ من خلال الرواية ثقافة المؤلف ووعيه السياسي لكن يؤخذ عليه أحيانا الإسهاب الممل في هذا الجانب الذي يخرج العمل من كونه عملا سرديا إلى التقريرية الصحافية، كما يؤخذ عليه الاسهاب في سرد مغامرات البطل مع النساء بشكل مكرور وكذلك بعد لحظة التأزم عن لحظة التنوير وشبه الانفصال بينهما بسبب المسافة الزمنية الطويلة بين اللحظتين.
شمس علي - الدمام