«لم يكن إليوت ساحرًا عظيمًا يلعب بالكلمات فحسب، بل كان الحارس الأمين للغة أيضًا.» إيجور ستراف0نسكي أحتفظ دومًا بالمقاطع التي تلفتُ نظري مما أقرأ في دفترٍ خاصٍ، رغم أنّ هذا صار أمرًا من الرفاهيةِ التي لا تتوفّر، ولأنه صار كذلك، فقد عدتُ إليه منذ فترةٍ وعثرتُ على أحد مقاطع قصيدة «أغنية العاشق ألفريد بروفروك» لـ ت. س. إليوت، حسنٌ هذا كلّه يشبه المقدّمات الطويلة المملّة لكتبٍ أكثر مللًا! يقول إليوت/ بروفروك:
لقد وزنتُ حياتي بملاعق القهوة
إنّي أعرف الأصوات التي تتبدّد عند النهاية
تحت صوت الموسيقى الآتية من غرفةٍ بعيدةٍ
فكيف تواتيني الجرأةُ إذن؟
من الواضح أنّ بروفروك كان يشعر باليأس بحيث يجعل حياته مكافئًا للقهوة ( أو القهوة مكافئًا لحياته)، الحياة التي تكفيك قراءة هذا المقطع لتعرف أنها كانت زاخرةً بالانتظارات الطويلة غير المجدية، ولتعرف أن هذه الحياة كانت تمرّ دونه من خلال حديثه عن الموسيقى والأصوات القادمة من بعيدٍ، وكأنّه غير معنيٍّ بها أو كأنّها غير مكترثةٍ به، ويبدو مجرد تفصيل طارئٍ على المشهد الذي لا رفيقَ له فيه سوى كثيرٍ من الوحدة.
قد يبدو العنوان خادعًا ومضلّلًا للقارئ الذي قد يتوقّع حديثًا عن الحب، لكنه يفاجَأ أنها أغنية «موتٍ غير معلنٍ»، حين يرتطم بكمٍّ كثيفٍ من الخيبة والقلق واليأس عندما ينشغل ألفريد بروفروك بأدقّ تفاصيل المشهد من حوله كالمساء المتدلّي من النافذة بضجر، والضباب والشوارع الضيقّة وفنادق الليلة الواحدة الرخيصة، كلها ينغمس بها ألفريد ربما في محاولةٍ فاشلةٍ لتشغله عن التفكير في المناسبة الاجتماعية التي ينوي الذهاب إليها هذا المساء بصحبة أحدهم، ثم ينساه وينغمس في ذاته أكثر ليعبر عما يشبه «الفوبيا» مما سيقوله الآخرون عن مظهره.
اختار إليوت مقطعًا من «الكوميديا الإلهية» لدانتي لتكون عتبة للقصيدة، ولا يبدو أن اختياره لشخصٍ من الجحيم تحديدًا كان ضربًا من العبث، فهذا الشخص يوافق على سرد قصته رغم أنه ليس هناك من يعود من الجحيم ليروي ما حدث، وقد يكون هذا هو نفسه رأي بروفروك الذي تصيبه المناسبات الاجتماعية بالذعر في مجتمعٍ يبدو معنيًّا بالمظهر كثيرًا وبالتأنق الشديد (حدّ الابتذال)، لأن المدعوّين سيجدون في مظهره ما ينتقدونه، مهما حاول أن يكونَ لائقًا، ولذا يبدو حضورها نوعًا من الجحيم:
وبالتأكيد سيكون هناك وقت
لأتساءل : «هل أجرؤ ؟»، و.. «هل أجرؤ ؟»
وقت لألتف متراجعا وأهبط السلم
ببقعة صلعاء في منتصف شعري
[سيقولون: يالشعره وقد بدأ يخف]
بممعطفي الصباحي وياقتي المنشاة الواصلة إلى ذقني
رباط عنقي الفخم المحافظ والمثبت بدبوس بسيط
[سيقولون: لكن ما أنحف ذراعيه وساقيه]
هل حقا أجرؤ
على إزعاج العالم ؟
يظلّ بروفروك في هذا النوع من الحفلات مراقِبًا من بعيد، يطمح أن يتداخل أكثر لكن لا يتوفّر له ذلك، فلا أحد يلتفت إليه من النساء اللاتي ينشغلن بالحديث عن مايكل أنجلو في نوعٍ من الادّعاء والاستعراض الباهت. كما يظلّ بروفروك يؤكّد لنفسه أنه سيكون هناك متّسعٌ من الوقت ليختار الهيئة التي عليه أن يظهر بها، وهناك وقتٌ للقتل والخلق (للبناء والهدم)، ووقتٌ للأيدي التي سترفع الأسئلة وتلقيها في طبقه في نوعٍ من الحصار الفضوليّ تزخر به هذه الاجتماعات، لا لشيءٍ سوى تمضية الوقت والتسلية!
يتعاظم إحساس بروفروك بالضآلةِ حين يعبّر عن خشيته من التسبّب بإزعاج العالم، وعن إيمانه العميق أنه ليس شخصًا ذا شأن كالأمير هاملت، لكن يمكن له أن يكون أحد أفراد حاشيته، مجرّد شخصٍ عابرٍ يقول جملةً لتحريك المشهد غير المتعلّق به، كأنه أحد أفراد الكومبارس الذين تغصّ بهم الأفلام والروايات، وبالرغم من كونهم غير معروفين لكن وجودهم ضرورةً للحدث الدرامي، وهذا هو شأن بروفروك:
لا ! .. لست أنا بالأمير «هاملت» ولا ينبغي لي أن أكونه
ما أنا إلا لورد من حاشيته.. شخص قد يؤدي
لتحريك الأحداث، يبدأ مشهدًا أو مشهدين
و - بالطبع - ينصح الأمير سهل الانقياد
في الغالب يسعد لكونه نافعًا
سياسيًا، حذرًا، موسوسًا
مليئًا بالألفاظ الرنانة، لكن يصعب فهمه بعض الشيء
في بعض الأوقات - أو في الواقع دائمًا - ما يكون سخيفًا
و في الغالب - أو أحيانًا - ما يكون المهرج
ويمكنه أيضًا أن يكون مهرجًا يقول أشياء سخيفة، برغم صمته إلا أن مظهره يفي بالغرض لإضحاك الآخرين وإثارة سخريتهم، وما دامت هذه هي نظرته لنفسه فقد نفى أي احتمالٍ أن تعجَب به امرأة، الأمر الذي يجعله يشبّه نفسه بيوحنا المعمدان الذي قطع رأسه بتحريضٍ من امرأة، فنظرة النساء المزدرية لألفريد هي نوعٌ من قطع الرأس المعنوي، ولا ينسى مع ذلك أن يؤكّد أنه ليس نبيًا ولا يرفع نفسه لهذه المرتبة، إنما هو مجرد شخص تافه! ويعرف يقينًا أنه مهما اعتنى بتتبّع خطوط الموضة (ف ي اللباس أو تصفيف الشعر)، سيظل هناك ما ينفّر الآخرين (النساء منه) كالتجعيدة التي في طرف البنطلون، ولهذا لن تغني له الحوريات لأنه غير لائق، وكأنه طارئٌ على المشهد بأكمله!
بثينة الإبراهيم - القاهرة