إضافة المثقفين إلى الرواية هنا إنما هي إضافة باعتبار السياق الروائي، وباعتبار الشخصية الرئيسة والشخصيات الثانوية في الرواية، وليست الإضافة هنا باعتبار مبدع العمل الروائي. ولعلي أزعم ابتداع هذا المصطلح الذي يهتم بالمثقف الأيديولوجي.
وقد اهتمت الرواية في مرحلة ما بعد الأيديولوجيا برواية المثقفين، إذ إنها اعتمدت على الميتا سرد الذي يُبطن نقد المثقف في مرحلته الأيديولوجية وفي مرحلته التي انغمس في تأطيرها الأيديولوجي حينما صار حارسًا لأفكار الحزب ومدافعًا عنه، وبعد هذا التأطير الحزبي الذي سلب المثقف كينونته واستبدله بكينونة حزبية مؤدلجة لا تؤمن بغير ذاتها إنحاز الروائيون إلى تجلية تلك المرحلة الحزبية أو إلى نقدها من خلال نقد المثقف الذي كان يومًا ما فاعلاً فيها، وهو ما رأيناه في روايات عديدة عربية وغربية كما في الرواية الأكثر شهرة؛ رواية (المثقفون) لسيمون دو بوفوار التي جلّت أو نقدت مرحلة الحرب العالمية الثانية من خلال شخصيات المثقفين التي جمعت كل الأطراف والتيارات يسارية ويمينية لتستشرف من خلالهم مرحلة ما بعد الحرب، وفي روايتنا العربية نستطيع أن نستذكر العديد من هاته الروايات التي جعلت من المثقف ثيمةً لها وجعلت منه شخصيةً رئيسة تدور حوله أحداث الرواية كما في رواية (خان الخليلي) لنجيب محفوظ، وروايات عبدالرحمن منيف (شرق المتوسط - الأشجار واغتيال مرزوق - الآنا هنا)، ورواية (ذاكرة الجسد) لمستغانمي، ورواية (شقة الحرية) لغازي القصيبي، و(ثلاثية تركي الحمد)، ورواية (القوس والفراشة) لمحمد الأشعري، ورواية (بعيدًا من الضوضاء قريبًا من السكات) لمحمد برادة، ورواية (فرانكشتاين في بغداد) لأحمد السعداوي، ورواية (الطلياني) لشكري المبخوت، وغيرها من الروايات.
وعندما نعتمد رواية (الطلياني) كنموذجٍ لرواية المثقفين، فإننا نحاول استظهار هذا المثقف من خلال الرواية، ونستبين قضايا المثقف التي نلمس أكثرها في العديد من الروايات التي اهتمت بالمثقف واندرجت ضمن (رواية المثقفين).
وقد يكون جليًا في رواية (الطلياني) التركيز على المثقف الأيديولوجي الذي إنحاز إلى التيارين اليساري واليميني من خلال المثقف عبدالناصر اليساري الماركسي والمثقف الديني الحركي المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين. ونلمس الصراعات الفكرية بين هذين التيارين وبين التيار والسياسي داخل أسوار الجامعة ضمن التجمعات الطلابية، وجاءت هاته الصورة للمثقف عبر التأرجح بين السارد المتكلم والسارد الغائب الذي يعرف كل شيء عن المثقف عبدالناصر وزوجته اليسارية المتطرفة (زينة)، والسارد (العليم) هنا الذي يفقه كل شيء عن المثقف ينبي عن تحليل بديع وعميق جدًا للروائي لكنه تجاوز الفن الإبداعي الذي يجعل من السارد عالمًا بما في قلب الشخصية مما أفقد السرد إبداعه.
وهذا النقد؛ أعني (نقد المثقف) ضمن العمل الروائي، يحيلنا إلى نقد المثقف لذاته، إذ إنّ المثقف هو مبدع العمل الروائي وفي الوقت ذاته هو الناقد للمثقف، وهاته المرحلة هي مرحلة متقدمة جدًا لأن العمل الروائي كان منشغلاً بشكل كبير على نقد المجتمع وتأليه المثقف، فالمثقف ناقدًا لا منقودًا حتى وصلنا إلى الآنيّة التي جعلت الناقد منقودًا من المنقود، فالناقد صار منقودًا من ذاته، وهو ما نراه من تجلية لعيوب المثقفين المؤدلجين والمنتفعين في هذه الرواية حتى إنّ عالَمَ المثقف هو «عالم نميمة وضغائن واغتياب وكذب ونفاق ونرجسيات جريحة جارحة» (الطلياني ص270) بل إنه قد «زال الفارق الكيفي بين حملة الأقلام والفكر وحملة الخناجر وباعة الخمر خلسةً» (الطلياني ص272)، إلا أن الرواية العربية لم تستطع حتى الآن أن ترسم لنا ملامح المثقف غير المؤدلج، فاكتفت بنقد المثقف المؤدلج ضمن مرحلة فكرية سالفة، وغاب بشكل ظاهر ذلك المثقف الناقد لذاته أولًا ولغيره آخرًا.
وأزعم هنا أن (رواية المثقفين) هي رواية أكثر عمقًا من الروايات التي وازتها في تجلية المراحل الاجتماعية السالفة، وهي رواية يغلب عليها المنحى الفكري الذي يحوّل الفكر إلى أشخاص على أرض الإبداع الروائي، لذا فإنها تكتسب أهميتها من هذا العمق الفكري والتحليلي لذهنية المثقف.
صالح بن سالم - المدينة المنورة