«إذا اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة», هذه واحدة من أشهر عبارات (النفري), وأظنّ أن أهل نظرية الاتصال لو طوّروها لأصبحت : ...»ضاقت العبارة وتواصلت الحواس», فنظرية التواصل الإنساني عادت إلى ما كان عليه الإنسان القديم, من إعمال للحواس السمعية والبصرية والشمّية والذوقية على السواء, أمام الآلة العقلية النصّية.
وجد يعقوب عليه الصلاة والسلام ريح يوسف, وعبق قميصه, فكانت البشارةُ شذىً زكيّاً فصيح البيان. والسنة النبوية الشريفة تشمل إيماءات النبي صلى الله عليه وسلم, وتبسّمه, وصمته صلى الله عليه وسلم الذي هو تقرير لا ينطق عن الهوى..
والدكتور زغلول النجار يرى أن مَن تأمّلَ الطوافَ وجده ناموساً من نواميس الكون, الدوران: حركة الإلكترونات حول النواة, الطائفين حول الكعبة, القمر حول الأرض. الكون كله في طواف, لمن أنصت (للحركة), والتفكّر من أجلّ العبادات, ودرجةً عُليا من الإيمان (رزقنا الله إياها), تفكر من أعظم المخلوقات: الكون وأجرامه, حتى أدقّ الكائنات الدقيقة والبكتيريا. لغة يفهمها المؤمن لا تحتاج تنقيحَ لغويٍّ, ولا تقريبَ ترجمان.
والمتأمل لكل شيء يقرأ فيه ما يتقنه ويحسنه, فأفلاطون يقول: الكون كتابٌ مكتوب بلغة رياضية, لقد تواصل مع الكون بلغة يجيدها, فاستوعبها في كل حركات الكون وسكناته. الجميل يستوعب لغة الجمال حوله, والمتشائم لن يعجز عن قراءة ما يوافق فهمه للحياة. أما في أيامنا المزدحمة بالكلمات, فقد تقول رائحة عطرٍ قديم ما لا تقوله عشرات القصائد عن الغياب والحنين إلى الراحلين, الذين غارت ملامحهم, ودُفنت كلماتهم, فبعثها الطيبُ من مرقدها.
تبقى نظرةُ والدٍ معاتب علامةً لا تُنسى, وإن غاب الموقف, واندثرت التفاصيل.
يُعاقب الأستاذ تلميذه بالصمت عقوبة أقسى بكثير من سيلِ التهديد والوعيد.
يتناقل أهل المشرق ضحكة طفلٍ من مغرب الأرض, فهموا الصوت, فلا أهمية للنص, كما يشترك البشر في الإنصات إلى هديل الحمام..
المفارقة أنه قبل ثلاثة عقود تقريباً قال نقاد ما بعد البنيوية: «نحن مندهشون من التطور الخارق للسيمياء حولنا», فماذا نقول أمام سرعة التواصل الاجتماعي, وسيطرة الصورة, حتى خُصصت دراستها فسميت «بلاغة الصورة»؛ بلاغة لأننا فعلاً نقرأ صورة طفل مظلوم, أو مدينةٍ تحت الردم, أو طبيعة خلّابة, فنجد فيها أكثر وأبلغ من التعليق الطويل المرفق تحت الصورة.
صورة (بيبي عائشة) التي جُدع أنفها في أفغانستان, والتقطتها مصورة من جنوب أفريقيا, ونشرتها صحيفة التايم في أمريكا على غلافها, فازت بجائزة أفضل صورة من أمستردام, لم يترجمها أحد.
وأكثر من الصورة والصوت والرائحة, يرى (إمبرتو إيكو) أن كل ما حولنا من أشياء علاماتٌ تُقرأ كما تُقرأ النصوص, و(جوليا كريستيفا) تربط بين هذه الأشياء/العلامات وبين التحليل النفسي وتسمّيها (السيماناليز), فتنشط الدراسات النقدية في اتجاه أعمق من رصف الكلمات, ورسم الأحرف.
وأهل تطوير الذات اتّجهوا إلى لغة الجسد, فأصبحت كرنفالاً يختلط فيه العلمي بالتسويقي.
هل هذا يعني أن الكلام كان الأسهل؟ ليس على كل حال, الصعوبة والسهولة بلا قواعد, شيء من وصف (بدر بن عبدالمحسن) لقصائده, حين قال: «شِعري رخيصٌ كالهواء, غالٍ كالهواء»..
ما أصعب بعض الكلام! حين تتسع المعاني ولا تتحملها الألفاظ, حتى قيل: «العجز عن الشيء قد يأتي عند الوصول إلى القمة منه, كأن يكون العجز عن الوصف في قمة الوصف, والعجز عن الشكر في قمة الشكر, والعجز عن التعبير في قمة التعبير», وقليل من يفهم مفردات ضجيج الصمت..
ولكنّ الجميل أنّ من تتسع رؤيته, ويتعبُه الكلام, ترهَف عنده الحواس, فيقيس الصوت, ويتحسّس العبق, ويقرأ الحركة, ويتذوق الكلمة, ويُعرِب الصورة, وينصِت للأشياء..
والأجمل أن نتقن لغة أخرى مع الكلام نتواصل بها, فما أفقر من يكون تواصله الإنساني- فقط- كلمات, وما أضيق مساحة حضوره! ستفوته الكثير من الأخبار الناطقة من حوله, التي وصفها مُرهفُ الحسّ القديم (المعرّي) :
قد تنطقُ الأشياءُ وهيَ صوامتٌ.. وما كلُّ نُطقِ المخبرينَ ..(كلامُ).
نايفة العسيري - الرياض