من أنا؟
والآن ألعب في الحياة بفرصتي الأخيرة وبالوسيلة الوحيدة التي كنت أحسبني أعرف «الكتابة» ولكن حتى هذه الوسيلة الوحيدة والعاجزة أيضا غدت تراوح بين اليقين واللا يقين مفرِغة مساحات أبدية شاسعة أخذتني للتيه.. التيه الذي منه جئت والذي حتما إليه أمضي.
غير أني وقبل ذلك أحاول خدش هذا التيه بهذه الكتابة وبما أستطيع من الغناء.. ولا يقين سوى اليقين بأنه لا يقين.. لا الموت لا الميلاد ولا حتى الألم الذي ظل الوحيد الذي يذكرني بكينونة الجسد، هو لا يقين أيضا عندما لم يصل بي حيث أهفو.. ثم من أنا؟ لم أفهمني.
لن أدعي أن أحداً لم يفهمني.. ليس من أحد ملزم بذلك ومن أنا لأرمي الكون بتهمة ظالمة كهذه؟ وحتى اللسان الوحيد الذي وهبتني الحياة ظل وحيداً يحاول قول كل شيء.. يخطئ أكثر مما يصيب.. ويقطع أكثر مما يصل ويزوّر الأماني والأسئلة وحتى المفردات التي كنت أحاول تطريزها لمن أحببت، لقد خانها كثيراً وخاتلها أكثر.. ولم أكن أمتلك فيضا من قواميس الكلام لأغترف منه وأبيح لنفسي كل هذه المفردات وكأن عرس الحياة ابتدأ معي ولم ينتهي.. لقد أخطأت والآن أسلم.
هل علي أن أقول إني حتى أنا لم أعد أفهمني؟ نعم وأعترف.. فأنا أتشكل وأعاود التشكل كل يوم بتبدل مربك.. ثم أني لم أتفق مع الحياة على هذه المسرحية الهزلية.. كان شرطي معها أن أكون كائنا بشريا أحمل قدري وأذهب به نحو تخوم النهايات وهذا لم يحدث..لقد خدعت.
لن نموت
وكل شيء يغادرني الآن ولم يعد هناك ما أصغي له سوى الصمت وصوت الروح, الروح التي أبدا لم تخذلني ولن تفعل.
أستيقظ في أنصاف الليالي أحتسي الظلمة وأصغي عميقا لصوت الزمن.. الزمن هذا القادم من الأبدية والعابر إليها في مسار تنتظم فيه كل أصوات الحياة.
في الليل ينتفي الأعلى والأسفل.. ويحضر القادمون والذين غادروا، والأرواح لا تعرف العدم ثم تتجاوز جدلية المؤنث والمذكر وهي فقط الأرواح.
ونلتقي.. نلتقي بهم أولئك الذين تشتاق أرواحنا لأرواحهم وسريعا نأتلف. ونتقاسم الغنى الذي بيننا والحب الذي بيننا والحنين الذي يجيء بنا كلنا من أقاصي الغياب ونأخذ عهدا أن لا نموت.. ولن نموت.
يشبهوننا
هم كل من فعل بنا هذا، أولئك الذين ظننا أنهم يشبهوننا والذين من أجلهم قبلنا الحضور اللا مشروط لهذا العالم والإيمان بما لا نؤمن وبالصمت على كل غصات الحياة.
كنا نظن أنهم حتما لن يغادرونا ومعا كنا سنكسر قوس الغربة ونعلن قيامتنا ثم ندخل جنتنا والتي على كل حال لن تكون أنهارا من لبن وغنائم.
هم لم يأتوا والعتاب لم يكن يوما سوى سجود سهو لصلاة حائرة. وهل خذلونا؟ لربما هم أيضا خذلتهم أقدارهم.. حيواتهم والطرقات التي عاهدت أقدامهم ثم خانت..ومغفورا لهم ونحن غفرنا.
أحتج
وإياكم أن تقولوا عني إني عبرت هذا العالم وحييت هنا.. ذلك لم يكن، نعم كنت هنا.. نعم عبرت من هنا ونعم عرفت مفردات كالشمس، الهواء، التراب وحتى الحب سمعت به أيضا.. لكني لم أحيا شيئا من كل ذلك.. وكل ما أعرفه أني كنت شجرة يتهجى قامتها الريح ثم يخونها المطر.
ولقد عبرت هذا العالم كسؤال كبير وموجع ودون إجابتي من أنا؟ ومن أنا؟ ومن يقول لي من أنا؟
ولنفترض أني كنت هنا أفلا يحق لي استعادة التجربة التي لم تكن ناجحة وسعيدة بأي حال؟
وسأقبل أن أكون شجرة أو عصفورا أو حتى كائنا بشرياً آخر.. شريطة أن أكون أقل عذابا ووحشة.. وأن يكون معي الصفحة الأولى والوحيدة من كتاب الحياة.. وأن تكون هي معي.
وعدا ذلك سأحتج.. وأعرف أن لا أحد سيستمع لي، لكن الصراخ في وحشة الأبدية هو كل ما أستطيع.
وأخيراً
إني أفتش عن ملجأ لقصائدي التي تشردت عندما افترقنا ومن يجتبيها حتى تبلغ الحلم أو حتى أعود أنا لي أو يقول لي قائل من أنا.
عمرو العامري - جدة