وأنت تدخل من باب ثم تخرج من باب آخر، كنت أرى خطوات الطفل كأبعد ما يكون عن الأرض، الأبواب كلها يا لوركا ! على كل باب طرقته، تنسى خفقات سائلة من العشب والضوء، ما دلني عليك غير يدك يا لوركا، يدك التي تطرق الباب مرتجفة وخائفة، تشبه اليد المرتبكة التي انسحبت مبكرا عن العالم، يدك غريبة على كل حال، كان يكفي -وأنت المولع بالساعات - أن تحفر على جذع الشجرة ساعة ليختلف شكل الشجرة ويتغير عمرها - تكبر أو تصغر - عما كانت عليه، لاتكترث للطائر المرتعش ولا لحزن عينيه، حبر الأنثى في داخلك، صورة الله وتلك العتمة البعيدة، أفرأيت إذا أدركتنا الصحراء وسال الشفق على ثيابنا ربما تندب على جبل هناك: بربك اقتربت الساعة هيا أعدني إلى بيت أهلي، وسيبادهك صوتي أيها الضيف: كلا ما اقتربت الساعة ولا.....
بالأمس كان الحجر الضاحك لامعا بين شفتيك، لماذا انطفأ ؟ هب أنك لا تزال في ضيافة الغجر، تتنقل من وكر إلى آخر، وكلبك الحالم هناك يهش بذيله القوافل عن الماء ثم يستلقي على السفح، يراقب غيوما مجعدة كخراف هائلة تعترك في البعيد، هب أنك لاتزال في التمارين، تقف في منتصف المسافة: بين الدمية والطفل.
لا تشح بوجهك عني يا لوركا ! فحديث التنين مثقل بأقواس قزح، لقد منحك الغجر أسرارهم، مزاميرهم وأغنياتهم الرعوية، كنت تبذر السر في الغابة وتنساه، وبعد زمن يداهمك في الحلم كذئب اليابسة، ثم تحتار لما يحدث، فلا تعلم هل الحلم انشق على نفسه فصار سرا أم السر شب عن التراب وتحول إلى حلم، هل نسيت حانة الصيادين ذات الخشب الرمادي، الكراسي المصنوعة من عظام الأسماك والطاولات المزينة بالقواقع، ألم تخرج منها فاقدا ظلك وقبعتك البحرية، ألم يربت على كتفك صياد جريح ثم يخبرك أن السر هو أقصى ما يطمح إليه الضيف.
من عادة الغجر أن يكلفوا فتياتهم بنظم سبحات مقدسة، يصنعنها من عيون ذكور الإوز كي تلمع في الخلوة الليلية وتضيء دروب الهجرات إذا ما تاهوا.
داهمك أربعة فتيان من الضاحية، كنت منكبا مع الغجريات على ديك الإوز لخلع عينيه، نظروا إليك بازدراء ضاحكين وقالوا: لوركا أنت فتاة ! أطرقت برأسك كيرقة حزينة فلم تجد أرضا تواريك فحزمت عذاب العالم على ظهرك وقلت: لكنه الشعر، هكذا هو محض اشتباه، فاغفروا غرابة أطواري.
كنت تتردد على معبد قديم خارج الأوقات المعلومة للصلاة، تدخل المعبد بخفة عصفور وطيش ملاك، أنت في حل من تكاليف الضيافة، أو لعلك ضيف على الأبدية؛ لذا تزن العالم بعين لاهية يتغير مثقالها من نظرة إلى أخرى، تحدق في جدارية المعبد، لم تجد فاتحة للأسرار، تعاود النظر إلى وشم على كتفك، انحلت عنه الخضرة، هل هو الموت ! لاصوت في المعبد، تخرج إلى حديقة متاخمة له، وها هو الغلام اليهودي -كعادته- يرعى حديقة احدودبت عليها السماء، بيدين منحوتتين من زهر وشمع يطعن الطائر حتى آخر الريش والحلم والنافذة، تقول له: الأزهار لا تضاهى في حضرتك، إنها تزدهر بين يديك، يبتسم بصوت غائم ثم يباغتك: لا، ليس أنا، بل هي روحك المشبوبة بالنرد والنار تهطل من لعبة رشيقة كالعراء، تهطل كلما زرت المعبد يا لوركا، لذا كن جارا لنا حتى لا تتأخر عن الصلاة، انظر إلى الحجل يستدرج أنثاه بجوار ماء يلمع تحته حصى مشمس، نزهة الحجل ومجازفاته، أليست الأسرار خارج الجداريات والمواقيت، لا بد من خلوة لا نعود منها، فالعائد يحمل على كتفه وشما يمنعه من النسيان، إنه وشم انحلت عنه الخضرة على دروب العائدين...
* من نص طويل قيد الاشتغال.
زياد السالم - الجوف