وبناء على ما سبق في المقالة السابقة أقول:
الوجودية تريد أن تقول باختصار حسب ما خرجتُ به من تأمل أطروحات بعض منظريها: صارتْ الإنسانية في الأزمنة المتأخرة تعيش في ظل (مجتمعات كبرى)، تتكون من هيئات وأحزاب وجهات وتكتلات مختلفة ضخمة، أذابتْ الأفرادَ في أمواج مياهها المتلاطمة، ومن هنا يجب أن يكون للفرد صوت وبصمة، فمن حقه أن يبحث عن ذاته ويصنعها كما يريد.. يتحتم مثلا أن يكون لكل فرد رأي بالطريقة التي يختارها لنفسه، كما يختار ثيابه وأثاثه وحاجاته. الفرد يولد فيجد كل الأشياء جاهزة له سلفا، وهذا ما ترفضه الوجودية.. يولد فيجد مجتمعه وثقافته وقيمه ودينه ونسبه وطبقته الاجتماعية ومذهبه وحزبه السياسي ولونه...الخ، فمن حقه -بناء على ذلك- أن يثور باتجاه تحقيق وجوده الشخصيّ، أي أن معه كل الحق في مراجعة كل ما يراه جاهزاً أمامه في حياته.. من حقه أن يتمرّد، ويبحث، ويسأل: لماذا حدث كل هذا؟ ولماذا حدث بهذا الشكل؟ فالأسود مثلا من حقه إذا كان يعيش بين غالبية من البيض المتعالين عليه، أن يسأل مثلاً: لماذا أنا منبوذ؟ ولماذا تُهضم حقوقي؟ أين العدل أين المساواة؟ أين ذاتي أين حريتي؟.. وهكذا في بقية الاختلافات ومع بقية الأقليات، كالفرد الذي يكون دينه مخالفًا لدين الأغلبية في مجتمع ما مثلا.
إن الوجودية ليست ديناً كما يتوهم البعض، فهناك من يؤمن بالوجودية بكل قوة وهو ملحد متعصب في إلحاده؛ وهناك -في المقابل- وجوديون دينيون في قمة الإيمان بالله أو الخالق، باختلاف صور ذلك الإيمان في الأديان والمذاهب المختلفة.
والوجودية أيضًا ليست مذهبًا سياسيًا في نظر غالب من قرأتُ لهم، والمعنى ببساطة أن الوجودية لا تَعِدُ بشيء معيّن على الصعيد السياسي، فهي لا تهدف إلى إصلاح حقيقي وفق أسلوب ظاهر أو برنامج أو مشروع واضح، حتى لو وردتْ بعض الإشارات السياسية أو الإصلاحية في صفحات كتّابها أو على ألسنة عشاقها.
الوجودية تهتم ابتداءً وقبل أي اهتمام ثانوي بالفرد من النوع الإنساني، فهي تبحث داخله بعمق عن معنى الإنسانية وعن حريته، فالبحث عن معنى الإنسان ضروري عندهم في عصور يرون فيها معنى هذه الإنسانية ضائعًا ميتاً مطموسًا بسبب (النشاطات الجماعية) التحزبية التكتلية الكبرى، التي ذابتْ في بحارها أحلامُ الأفراد وحرياتهم وحقوقهم في إثبات وجودهم وإشباع وتحقيق طموحاتهم.
ولذلك نجد عند الوجوديين دائمًا (ثورة داخلية) مشتعلة في أعماقهم، تؤجج نيرانَها قناعتُهم الكبيرة أو محرّكهم الأول، المتمثل في ترديدهم عبارات وأسئلة من قبيل: في أزمنتنا المتأخرة وكلما تقدم الزمن أكثر، يتضح أنه لم يعد للفرد قيمة حقيقية، حيث لا قيمة إلا للجماعة أو للهيئة أو للحزب أو للمنظمة أو للنقابة أو للشركة، فالقيم كلّها كليّة عمومية جماعية، فأين قيمة الإنسان الفرد؟!
ولو عدنا إلى الأزمنة البعيدة، فسنجد أن سقراط مثلاً كان -في كثير مما نقل عنه- يحث الإنسان على أن يعكف على نفسه ويغوص فيها، فيعرف حدودها وقدراتها وإمكاناتها، وكان سقراط أيضاً يحاور الناس ويناقشهم معتمدًا على نفسه وعلى قدراته العقلية القوية المبهرة؛ ومن هنا يعتقد عدد من المؤرخين أن الوجودية في أساسها قد بدأتْ من سقراط ومحاولاته تشخيص المشكلات الفلسفية وجعل الفلسفة تتجه إلى الإنسان نفسه، وليس إلى العالم الخارجي المحيط به.. جعلها تتجه للإنسان أولاً، ثم تنطلق منه إلى غيره من الموجودات الحيّة وغير الحيّة.. ويكفي أن نورد هنا كمثال مقولة سقراط الشهيرة: (أيها الإنسان: اعرف نفسك بنفسك).
وأريد تسليط الضوء على أبرز ما عرفته عن كبير الوجوديين سارتر بضغط مختصر مركز لمنطلقه الأساسي، فقد أطلتُ تأمل فكره كفيلسوف وجودي، وخلصتُ إلى أن فكرة الوجود والماهية، هي لب فلسفة جون بول سارتر، حيث يخالف سارتر وأمثاله من الوجوديين الفكر الديني وعددًا من الفلسفات المختلفة، التي ترى -كما يرى الفكر الديني- أن ماهية الإنسان تسبق الوجود، فالدينيون يرون أن الله خلق الإنسان بعد أن وضع ماهيته قبل خلقه، بشكل مشابه لحال من أراد أن يبني منزلاً مثلاً، وفق المثال الذي أوردناه في الجزء السابق، فإن الراغب في البناء يضع بدقة مخططاً أو تصورًا لماهية البيت قبل الإنشاء، ثم يأتي البناء فيوجد البيت.
أما الوجودي فيرى كما يرى سارتر مثلاً أن معتقده على النقيض من ذلك، فوجود الإنسان سابق لماهيته عند الوجوديين، والمعنى ببساطة هو أن الإنسان يوجد أولاً، ثم بعد ذلك يصبح كذا أو كذا، وبناء عليه اهتموا بفكرة «إثبات الوجود»، فالواجب على الإنسان عندهم إثبات ذاته وتكوين صورة وجوده وخلق ماهيته الخاصة، من خلال مواجهة الحياة والكفاح في هذا العالم، ولذلك يرى سارتر وأمثاله أنه لا يمكن تحديد ماهية أي إنسان إلا بعد وفاته.
والحق أن غالبية المهتمين والمتخصصين في الفلسفة يتفقون إلى حد كبير، على أن سا رتر هو أول من مزج بين الأدب والفلسفة بهذا الإتقان المبهر، الذي جعل الأدب في كتاباته فلسفة بحق، أو بعبارة أخرى: استطاع سارتر أن يحوّل الفلسفة من كتابات معقدة لا تهضمها إلا عقول فئة من الناس، إلى أدب رفيع لذيذ سهل الهضم، يستمتع به غالب الناس، فبفضله نزلتْ الفلسفة من أبراجها العالية على هيئة قصص دخلتْ البيوت والأماكن العامة والخاصة المختلفة.. بل زاد في احتكاكه بالعامة والخاصة، فأصبح يجلس في المقاهي ويجمع حوله الناس ويكتب أمامهم، بشكل لم يكن معروفاً عند كبار الأدباء والفلاسفة في زمانه.
ورغم أن الوجودية تعتبر فلسفة لها ملامح ومظاهر أدبية ونفسية ومصطلحات خاصة، إلا أنها ليست (مذهبًا فلسفيًا) بالمعنى الكامل الشامل لكلمة مذهب.. فالمذهب في الفلسفة يكون محتويًا على إجابات وتساؤلات وآراء مختلفة على أصعدة كثيرة، أي أنه يشتمل على مجموعة من المسائل والمشاكل الرئيسية في الفلسفة، فالمذهب الفلسفي يقوم على عدد وفير غالباً من الأحكام أو المبادئ أو الأسس الكلية العامة، المحيطة بالإنسان وكل ما حوله ومعه في هذا الوجود، فالمذهب يجب أن يعطي الآراء والمواقف المتعددة من عدة مواضيع وقضايا فلسفية مختلفة عن الكون، والروح، والإنسان، والقانون، والمعتقدات، والأخلاق، والتاريخ، والجمال، والسياسة.. وما شابه.. أو عن كثير منها على أقل تقدير.
أما الوجودية فعلى النقيض، فهي تعارض الأحكام العامة والجماعية كما أسلفنا، وتصب كل تركيزها على الفرد وشخصيته وحريته..
وبالتالي -وبناء على هذا الشرح- اتفق مع القائلين إنه لا يمكن نعت الوجودية بالمذهب الفلسفي وفق المفهوم الكلاسيكي أو التقليدي لكلمة (مذهب)؛ لأنها ببساطة لا تتعاطى ولا تتعامل مع كل المسائل الكبرى المعروفة في الفلسفة، ولا حتى مع غالبها.
ويكفي أن أشير –بناء على فهمي الخاص- إلى أن سارتر مثلاً، كان يرى -ومعه كثير من الوجوديين- أن البحث في الكون ونشأته والروح والميتافيزيقيات والنواحي الثيولوجية والمثيولوجية المختلفة ذات الأهمية الكبرى في الفلسفة، كان يرى أن البحث في كثير من ذلك يجب ألا يشغل الإنسان كثيرًا؛ لأن ذلك -في رأيه- غير مفيد للإنسان في حياته اليومية ومعانياته ومتاعب دنياه.
ولا يسع المرء في الحقيقة وهو يتابع مثل هذه الرؤى من الوجوديين إلا أن يتعجب من اعتقاد البعض أن الوجودية مذهبٌ فلسفيّ، كغيره من المذاهب الفلسفية الكبرى، وفق المعنى التقليدي للمذهب الفلسفي المشروح آنفا.. والخلاصة أن الأدق هو اعتبار الوجودية توجهاً مهمًا في الأدب والفلسفة، وفيه كثير من الجماليات -في نظري- وله علاقة وطيدة بعلم النفس أيضاً، فهو اتجاه نفسي أيضًا.. كل ذلك صحيح ومقبول؛ ولكن (الوجودية) لا تصل في اعتقادي إلى درجة (المذهب الفلسفي).
ربما يردُّ البعض على الكلام السابق بقولهم مثلاَ: هناك من أهل الفلسفة من يعتبر طرح الرؤى التفسيرية المترابطة الشاملة عن مشكلة كبيرة أو مشكلات أو مسائل متقاربة أو متداخلة.. هناك من يعتبر ذلك مذهبًا، ولا يتردد في أن يسمي مجموع تلك الشروح والآراء الفلسفية (مذهبًا فلسفيًا) إذا كانت نتيجة تفكير تتحقق فيه خصائص التفكير الفلسفي أو غالبها أو كثير منها.
والحقيقة أن كلامهم هذا فيه كثير من الصحة أيضًا؛ فالوجودية عملها دائما حول الإنسان وحريته وإثبات وجوده وخلق ماهيته بنفسه وتخليصه من كثير من مشكلاته الناتجة عن صراعه مع المجهول دائمًا وأبدًا، أو عن جهله بسبب قذفه في هذا العالم في نظر بعضهم.. الخ؛ ولكن مقصدي من الكلام أو النفي السابق مختلف، فالوجودية ليست مذهباً حسب المعنى التقليدي للمذهب الفلسفي، ولكنها قد تكون في بعض أحيانها مذهبًا مُصغرًا أو شبه مذهب، وفق ردّهم الذي لا أختلفُ معهم في فحواه.
نتوقف هنا الآن، وسنختم ببعض النقاط المهمة المختصرة عن الوجودية في الجزء القادم الثالث الأخير بمشيئة الأقدار.
وائل القاسم - الرياض