للثور في الأدبيات العالمية والأدبيات العربية وضع خاص قلما التفت إليه الباحثون الإنثربولوجيون، فابتداء بالأساطير التي تجعل من الثور الذي أطلق عليه اسم كيثا حاملا للكرة الأرضية... وإهباط الثور الأحمر ليحرث عليه آدم.... مرورا بقبائل النوير في جنوبي السودان التي كانت في بدائيتها تضحي بالثور... ووصولا إلى الثور الصغير ((الحسيل)) الذي عبدته بني إسرائيل... ثم روايات الأحاديث التي ذكرت أن أهل الجنة ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها وروايات الأحاديث المختلف في تقدير صحتها حول تحول الشمس والقمر إلى ثورين عقيرين يكونان في النار يوم القيامة وقد وردت الروايات من طرق مختلفة، ولكن العجيب هو هذا النقد النبيه من أحد رواة الحديث لتحول الشمس والقمر إلى ثورين وكيف تم تلقي النقد حول ملحوظة ذلك الراوي النابه، « روى الحافظ أبو بكر البزار... فقال حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عبدالله الداناج قال: سمعت أبا سلمة بن عبدالرحمن زمن خالد بن عبدالله القسري في هذا المسجد مسجد الكوفة، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة فقال الحسن وما ذنبهما ؟ فقال أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول ما ذنبهما... «
وهنا يستعمل الحسن السؤال لنقد النص واستعمال السؤال يبدو أنه سؤال يحمل ليس فقط الاستفسار عن مستبهم غير واضح ولكنه يحمل الإنكار والسخرية المبطنة حتى وإن لم يصرح بهما، ولذا كان الرد عن هذا السؤال الذي لا جواب له هو استعمال الحجاج بالسلطة الاعتبارية لصاحب القول مما يؤدي بالضرورة إلا التسليم بصحة القول ثم التهديد المبطن للإنكار المبطن وللسخرية المبطنة، وهنا يجب التوقف تماما حتى عن السؤال كما يجب أن يتوقف العقل وتتوقف أي أشكال أخرى لنقد الحديث.
وهذه الطريقة المبطنة هي التي مكنت للوضع السلفي الذي يدعي أنه يقوم بتقليد السلف في الوقت نفسه هو لا يحمل أي فكرة بل يحمل تقديسا للفكرة ملتبساً بتقديس من وردت منه الفكرة وأنا هنا لا أتحدث عن الرسول صلى الله علية سلم بل أتحدث عن طريقته العامة في تلقي الأفكار وفي نقدها وفي ربط ذلك بالأشخاص وخصوصا لعلماء محددين تقبل منه الأفكار دون آخرين، ولذا فقد عرفت السلفية في أحد كتبي بأنها تقوم على تقديس الفكرة وحامل الفكرة بطريقة مزدوجة، والمشكلة أن هذا أكبر ما تعيبه السلفية على الطوائف الأخرى أي ارتهانها للأشخاص وبعدها عن النص؛ أي أن الممارسة الملتبسة بالخطاب تفضح تناقضات الخطاب ويجب أخذ الممارسة في الحسبان عند توجيه النقد إلى أي طائفة، وخاصة ما كان منها بنيويا متواشجا بالأفكار الرئيسة في الخطاب وقد ترجمت لمثل هذه الممارسات بمصطلح (التفاخطابية) أي المتفاعلة مع الخطاب...
ولن يقف الأمر بالثور في التراث العربي عند تلك الأحاديث والأساطير، ولكنه يمتد لنجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول إنما مثلي ومثل عثمان كمثل ثلاثة أثوار كانت في أجمة أبيض وأسود وأحمر ومعها فيها أسد فكان لا يقدر منها على شيء لاجتماعها عليه فقال الأسد للثور الأسود وللثور الأحمر أنه لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض فإن لونه مشهور ولوني على لونكما فلو تركتماني آكله خلت لكما الأجمة وصفت فقالا دونك وإياه فكله فأكله ومضت مدة على ذلك ثم إن الأسد قال للثور الأحمر لوني على لونك فدعني آكل الثور الأسود فقال له شأنك به فأكله ثم بعد أيام قال للثور الأحمر إني آكلك لا محالة فقال دعني أنادي ثلاثة أصوات فقال : افعل فنادى إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض قالها ثلاثا ثم قال علي كرم الله وجهه إنما هنت يوم قتل عثمان رضي الله عنه يرفع بها صوته.
والذي حدث أن قصة أو مثلا عن العرب فيه رواية عن علي بن أبي طالب وعن قصته مع السلطة التي تحولت إلى مذهب عقدي بعد ذلك؛ فالسلطة حيلة ومكر وحجاجي ينبغي التنبه إلى بعدها الاستراتيجي ومن الخطأ خلطها بالدين لآن الدين ثابت والسياسية متغيرة، ولأن الدين ناصع والسياسة غامضة، ولأن الدين مبادئ والسياسة مصالح، وإن كان كل شيء لابد في النهاية أن يمتثل للقيم وللمبادئ الدينية المجملة.. هنا الثور واللون يأخذ أبعاد الألوان كحجة تمويهية وينسى العمق البنيوي لفئة ثور وفئة أسد كما ينسى الوضع المصلحي الآني لفئة ثور + ثور + ثور في مقابل أسد – أسد – أسد كما يشير إلى أن استعمال الحيلة كأقوى وسيلة للتخلص من الخصم مهما كان وهذا حديث سلطوي.
وننتقل بالثور والإنسان خطوة أخرى مع كليلة ودمنة ليقع الثور شتربة الذي كان يخاف منه الأسد لما سمع خواره ثم احتال دمنة حتى أتى به الأسد خاضعا، ثم لما رأى تمكن الصداقة بينهما احتال حتى قتل الأسد الثور شتربة وقد تخلص الأسد من شتربة وندم ولما عرف تخلص من دمنة وفاتته حكمة شتربة وحيلة دمنة ولم تنفع مواعظ كليلة. فالأسد يعود لينتصر، ولكن بالحيلة أيضا وهو حديث سلطوي بامتياز شديد.
ليس هذا الأمر فقط بل إن الثور المسكين يضرب في الميثولوجيا العربية إن لم تشرب الأبقار عند ورودها الماء فترد الماء، ولذا قال أنس بن مدركة الخثعمي:
إني وقتلي سليكا ثم أعقله
كالثور يضرب لما عافت البقر
وهنا الثور يكون مصدر سلطة يعاقب دون ذنب ليقتحم الماء فتقتحم خلفه الأبقار أي هو ثور متبع ولا بد أن يعاقب بدون ذنب لمصلحة الأبقار عموماً وهو حديث سلطة أيضاً.
ولأن الثور ومؤنثه ثورة التي يجوز أن تطلق على البقرة ربما كان مشتقا كما يقال في اللغة العربية من إثارة الأرض أي حرثها فارتباطه هو ارتباط زراعي، بيد أنه تحول إلى تشكل سياسي سلطوي واتخذا كأحد رموز السلطة وكأحد تشكلاتها وتمثيلاتها، وربما ساعد على ذلك حجمه وقرناه ولذا قالت العرب كالثور يحمي أنفه بروقه أي بقرنه، وهنالك من ربط بين قرن الثور والهلال في الأساطير القديمة... ومصارعة الثيران تمارس كأحد أهم الرياضات التراثية في بعض الجهات العربية... ووجدت في أسبانيا بعد ذلك لتكون مصارعة دامية بشعة ليس بين ثور وثور ولكن مصارعة بين ثور وإنسان ولا أدري إن كان لذلك علاقة بالميثولوجيا العربية عن الثور أو تطور عنها، ولعل ما كتبه الروائي التونسي البشير خريف في الثور والمروض يغوص بنا في علاقة أعمق تكشف بعض الجوانب الإنسانية ولا نعلم روائيا تناول العلاقة بين الإنسان والحيوان تناولا عميقا في الرواية العربية حتى الآن سوى بعض الروايات عند الكوني المحتفلة بالصحراء الكائن وليس الحيوان الكائن.. ولذا يحتاج هذا الجانب إلى تناول روائي مميز
وعند تتبع تحولات التشكلات الخطابية التي يرد فيها الثور عند بعض الجهات في الجزيرة العربية، فإننا نجد مثلا في منطقة الباحة في بعض جهاتها يطلقون الثور ك(جد) لبعض القرى كما يطلقون الحمار أو الثعلب، وهو نوع من التعيير ربما له ارتباطاته القديمة بحكاية فالحكاية كثيرا ما تولد الواقع الأسطوري، ليس هذا فحسب بل نجد مثلاً أنهم يطلقون على كل من اسمه (علي) علي ثور، وبعضهم يستثني فيقول كل علي ثور إلا علي بن أبي طالب، وليس لهذا الأمر علاقة ما بالصراع بين بني أميه وعلي بن أبي طالب لأنهم يطلقون اسم مروان على الكلب أيضاً، ولذا فالمسألة قد ترتبط بحكاية أكثر من ارتباطها بحدث تأريخي وخصوصاً في الجهات الريفية المغلقة.. وقد تحولت الآن إلى دعابة لا تثير ضيقا ولا تمثل غير باب من المزاح الذي لا يحمل جدا وخصوصا بين الأصدقاء...
ولنصل بعد ذلك إلى النص العجيب الذي يصف الثور والإنسان ويداخل بينهما ويجعل بعض الناس ثيرانا كما يجعل بعض الثيران ناساً، وسأورد النص الشعبي ثم أشرحه ثم أحلل وجه التميز فيه يقول الشاعر الشعبي في منطقة الباحة:
« يقول أبو عبد الله بعض الهوش أوادم
والأوادم بعضهم هوش
إذا قلت ميد الثور هوّ هوّى
والأوادم ما يهوّون»
(الهوش آت من الهيشة وهي فصيحة وتطلق على الثيران ومازالت مستعملة في جبال السراة والعراق وبعض الجهات العربية) والشاعر هنا يصف عملية استخراج الماء من البئر الذي تقوم به الثيران في مساحة محدودة تسمى (المجرّة) وهي تماثل تقريبا عمق البئر على سطح الأرض وتكون على شكل طريق ضيق يسع ثورين تقريبا وعند الوصول إلى نهاية المسافة يقول من يتولى عملية قيادة الثورين (هو هو هوووو) = (اسم صوت) يزجر الثورين ليلتفا ويعودا فيهوّي الثوران ويعودان لإرجاع الدلو أو الغرب في قاع البئر)...
فالشاعر يجعل بعض الثيران بشرا كما يجعل بعض البشر ثيرانا، ووسيلته الحجاجية التي تطمس كل الفروق بين الثور والإنسان أن الثيران تفهم كلمة (هووو) فترجع، ولكن البشر حينما تقول لهم (ارجع أو هوّوو) لا يرجعون لأجل ذلك فحينما تستعمل الثيران العقل عن طريق فهم الكلمة تتحول بشرا وحينما لا يسمع البشر ولا يستعملون عقولهم يتحولون ثيرانا، ولكن المشكلة أن الثيران تقوم بعمل ارتباط شرطي يتعلق بالصوت والمساحة لتحافظ على ثوريتها أي كونها ثيراناً... أما الإنسان فليس عنده ارتباط شرطي لذا لن تنفع معه أساليب الارتباط الشرطي؛ فالإنساني الحقيقي هو الذي لا يهوّوي كما أن النص يفهم منه في الوقت نفسه أن الإنسان الحقيقي هو الذي يهوّوي، وهنا يرتبط الفهم بمتلقي الخطاب وسياق التلقي وأفق الثقافة التي تحلل النص ومع ذلك فالفهمان يمكن أن يستنتجا معاً في أي بيئة وفي أي ثقافة وهنا تكمن روعة النص أي أنه خارق للزمان والمكان معاً ممتعا في تتبع الصورة للثور والإنسان معاً ممتع في اقتطاع لوحة عادية لتحميلها بحمولات إبداعية وثقافية وفكرية مفتوحة... وفي النهاية يظل الإنسان في المجتمعات المتخلفة كائن شرطي الخطاب والإنسان في المجتمع ما فوق المتخلف هو كائن غير شرطي الخطاب، لذا يكون الإنسان ثوراً في مجتمعات و يعيش ثورا دون أن يدري... وهنا نصل إلى علاقة الثور بالإنسان علاقة موغلة في القدم تحولت من الاهتمام بالشكل واللون إلى استئناسه في الحرث ثم استعماله كتشكل خطابي سياسي ثم استعماله كثنائية وجود إنساني أو وجود ثوري، وبتتبع يسير نجد أن الثور المسكين هو ضحية وحشية الإنسان وليس العكس، بل الأدهى أن عملية تحويل الإنسان إلى ثور والتضحية به هي عملية مستمرة في بعض المجتمعات... ولعل للثورات التي اشتقت من الثور في اللغة العربية سواء ثورات سياسية أو علمية نكتة بليغة الارتباط بأهمية هذا الكائن في حياة العرب.
د. جمعان عبدالكريم - الباحة