نواصل مع ترجمتنا لدراسة البروفيسور تامر مصطفى المنشورة في فبراير 2000 والتي ستشكل أحد فصول كتابي المترجم «الأزهر والسياسة» الذي لا يزال تحت الترجمة:
اختراق إسلاموي مدهش لأجهزة الدولة
كما حقق الأزهر، أيضاً، مكاسب كبيرة من خلال تشكيل تحالفات واسعة مع جهات حكومية تشترك معه في الرغبة لتحقيق دولة ومجتمع أكثر تدينا. وتماما كما كانت الحكومة قادرة على استغلال الانقسامات والخصومات داخل الأزهر لصالحها عبر تشكيل تحالفات مع شيوخ ذوي توجهات تقدمية، تمكن الأزهر من استغلال الانقسامات الأيديولوجية داخل المؤسسات الهامة للدولة. وعلى سبيل المثال، فقد صدر حكم من مجلس الدولة عام 1993 (66) وقدم أبرز مثال لاختراق الإسلامويين لأجهزة الدولة ومنحهم امتيازات بعيدة المدى للأزهر. لقد طلب شيخ الأزهر في يوليو 1993، في رسالة وجهها إلى مجلس الدولة، توضيح الجهة التي تملك سلطة الرقابة على المنتجات السمعية والسمعية/البصرية المتعلقة بالإسلام (67). وبالرغم من أن الأزهر قد عمل في الماضي مستشارا لوزارة الثقافة حول الرقابة، إلا أنه سعى عبر ذلك الطلب إلى احتكار حقوق الرقابة لصالحه. وبحلول فبراير 1994، توصل مجلس الدولة إلى قرار لصالح طلب الأزهر بممارسة الرقابة، حيث جاء في القرار:
«... انتهت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع في مجلس الدولة إلى أن الأزهر الشريف هو وحده صاحب الرأي الملزم لوزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص أو رفض الترخيص بالمصنفات السمعية والسمعية/البصرية» (68).
وصعق قرار مجلس الدولة المثقفين المصريين، لأن مجلس الدولة له تاريخ طويل في دعم القيم الليبرالية وتعزيز المبادئ العلمانية. أكثر من ذلك، لقد كان الحكم لا يتفق مع السياسة العامة لحكومة مبارك. وكان مبارك نفسه، قبل شهر من صدور ذلك القرار، قد أثبت التزامه بحماية حرية التعبير؛ من خلال إنشاء المجلس الأعلى للثقافة. وقد صمم الرئيس مبارك المجلس الأعلى للثقافة، الذي تألف من 12 كاتباً وصحافياً، لإعطاء صوت للمثقفين المصريين الذين واجهوا تهديدات وقيوداً متزايدة من الجماعات الإسلاموية المتنامية (69).
وفي أعقاب حكم مجلس الدولة، تركز الاهتمام على المستشار طارق البشري، رئيس الجمعية العمومية لقسم الفتوى والتشريع والنائب الأول لرئيس مجلس الدولة (70). ويعدّ البشري قاضيا محترماً، وهو يساري سابق؛ ولكنه تحول إلى إسلامويٍ معتدلٍ. ونظراً لأن البشري لم يكن يقدر على إصدار القرار بمفرده، فقد أصبح من الواضح أن المتعاطفين مع الإسلامويين كان لهم وجود معتبر داخل مجلس الدولة. هذا المثال المبهر يضفي صدقية على الرأي القائل بأنه لا ينبغي النظر إلى الدولة على أنها منفصلة عن المجتمع؛ ولكن كجزء لا يتجزأ من المجتمع، بل إنها مغروسة داخله. ويمكن للدولة أن تتخذ، في كثير من الأحيان، سياسات من شأنها أن تعزز من «استقلالها» عن التأثيرات المجتمعية؛ ولكن هذه الإستراتيجية لا يمكنها تحقيق نجاح كامل؛ فالبيروقراطيون، وحتى كبار صناع القرار مثل البشري، هم، قبل أي شيء، أعضاء في المجتمعات التي يحكمونها.
المفكر عاصم الدسوقي:
الأزهر هو الذي يهيمن الآن على الدولة!!
وكان الجانب الأكثر إثارة للدهشة لحكم مجلس الدولة هو أنه، لأول مرة، تصبح قرارات الأزهر ملزمة لوزارة الثقافة. ولعل أهم من عبّر عن دلالة ذلك الحكم ومرارته هو المؤرخ والمفكر المصري المرموق د. عاصم الدسوقي، الذي قال في ورشة عمل برعاية المنظمة المصرية لحقوق الإنسان:
«تمثل هذا الفتوى مرحلة جديدة في العلاقة بين الأزهر والدولة. كانت الدولة تهيمن على الأزهر منذ عام 1895... ولكن هذه الفتوى غيّرت اتجاه هذه العلاقة. الأزهر هو الذي يهيمن الآن على الدولة من خلال مجلس دولته» (71).
ويرجع تردد الحكومة في إلغاء هذا الحكم ومعاقبة الأزهر على تزايد معارضته لمجموعة واسعة من سياسات الدولة إلى الوضع غير المريح الذي كانت تواجهه الحكومة بسبب تهديد الجماعات الإسلاموية وعنفها. فعلى الرغم من أن الدولة قد أثبتت قدرتها على التلاعب بالأزهر في الماضي؛ إلا أنها، بعد العنف الإسلاموي، أصبحت تعتمد على هذه المؤسسة الدينية اعتمادا متزايدا لتشويه سمعة الإسلامويين المتطرفين وتفنيد مزاعمهم على أسس دينية. أكثر من ذلك، كانت سيطرة الحكومة الشديدة على الأزهر تصب في مصلحة الإسلامويين؛ لأنها تؤكد حجتهم بأن هذه الدولة علمانية، وتفسد/تتلاعب بالدين لتحقيق مكاسب خاصة بها. نجيب فخري، رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، هو أحد القلائل الذين وصفوا بوضوح تغير سياسة الحكومة نحو الأزهر:
«تحاول الحكومة التفوق على الإسلامويين، من خلال جعل نفسها تبدو أكثر تدين ا. وهنا، يأتي دور الأزهر كمؤسسة دينية ليفرض سلطته. ولذلك، يكسب رجال الدين يوميا من هذا الوضع، وبشكل متزايد، امتيازات؛ لأن الحكومة تعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة لمكافحة الإسلاموية، بالرغم من أن رجال الدين الأزهريين قد يثبتون أنهم يشكلون تهديدا أكثر من تهديد الإسلامويين. محاولة الحكومة لعب ورقة التقوى والتدين هي التي دفعت الأزهر إلى المقدمة، ومنحته سلطات أكثر»(72).
وبتأمل هذه المكاسب، ينبغي أن نسأل عن الطرف الذي استفاد أكثر من العلاقة بين الحكومة والأزهر، على مر السنين. لقد نجحت الحكومة بوضوح – عبر الإصلاحات القسرية - في تحقيق القدرة على التلاعب بالأزهر إذا ما اختارت ذلك؛ فقد اكتسبت الحكومة سيطرة مالية كاملة، وكذلك سلطة تعيين القيادات الرئيسة للأزهر. والسؤال الملح هو ما إذا كان تلاعب الحكومة بالأزهر، كما فعلت في الماضي، يخدم المصالح طويلة الأجل للدولة؟ ويشير صعود الإسلاموية المتطرفة في السبعينيات وتجدد العنف منذ التسعينيات مقرونا مع عدم قدرة الأزهر على تقديم تفنيدات وردود دينية ذات صدقية إلى أن سيطرة الحكومة على الأزهر كانت ضريبتها هائلة.
وعلى الطرف الآخر من المعادلة، استفاد الأزهر استفادة واضحة من الوصول إلى موارد الدولة. وبفضل ذلك الدعم المالي من الدولة، استطاع الأزهر زيادة عدد طلابه ورفع رواتب علمائه وتوسيع فروعه الابتدائية والثانوية في جميع أنحاء البلاد، وزيادة عدد بعثاته إلى الدول الأجنبية. وتأثرت سمعة الأزهر سلبا بسبب ارتباطه الوثيق مع الحكومة؛ ولكن في الوقت نفسه أدى صعود الإسلاموية العنيفة إلى أن ينأى الأزهر ويبتعد بنفسه عن الحكومة، مع الاحتفاظ بامتياز الحصول على موارد الدولة المالية. وهكذا، منح تهديد الإسلاموية العنيفة لاستقرار مصر الأزهر أيضا النفوذ الكافي لتحدي الحكومة؛ بل وحتى الاستحواذ على وظائف مهمة من وزارة الثقافة.
المرحلة الأخيرة (*) في العلاقات بين الأزهر والحكومة المصرية
واضطر مبارك، في مارس عام 1996، لاتخاذ قرار بالغ الأهمية من شأنه أن يؤثر على العلاقات بين الأزهر والحكومة لسنوات مقبلة. فقد توفي جاد الحق علي جاد الحق، بعدما تولى مشيخة الأزهر لأكثر من أربعة عشر عاما. وبموجب قانون عام 1961 لإعادة تنظيم الأزهر، كان يجب على مبارك تعيين شيخ جديد للأزهر، ليحل محل الشيخ المتشدد جاد الحق. وبعد اثني عشر يوما من المداولات، عين مبارك مفتي مصر، الدكتور الشيخ محمد سيد طنطاوي، المعروف بموالاته للحكومة، رئيسا للأزهر (73).
طنطاوي، الذي كان يشغل منصب مفتي مصر سابقا، اختلف مع جاد الحق في عدد من القضايا الحساسة. فعن ختان الإناث، قال طنطاوي إن هذه الممارسة هي مجرد عادة ضارة لا تتفق مع الإسلام. وبالمثل، دافع طنطاوي عن «المؤتمر الدولي للسكان والتنمية» بحجة أن الإجهاض مقبول في الإسلام تحت ظروف معينة (74). وبالإضافة إلى النقطتين المذكورتين، أيد طنطاوي سياسة الحكومة بشأن عدد من القضايا الخلافية الأخرى، مثل فوائد البنوك و«جواز» توفير الدولة للخمور وكازينوهات القمار لدعم صناعة السياحة في مصر. وبالرغم من أن العديد من المثقفين المصريين وجماعات حقوق الإنسان أشادت بمواقف طنطاوي التقدمية حول العديد من القضايا، إلا أن الإسلامويين المتطرفين اعتبروه بوقا للحكومة.
يتبع
** ** **
هوامش المترجم:
(*) الأخيرة بالنسبة إلى تاريخ نشر الدراسة، في فبراير عام 2000. (العيسى)
- ترجمة وتعليق: د.حمد العيسى