ذكرنا في بداية هذه السلسلة أن المدرسة المثالية في الفلسفة هي المدرسة المقابلة للمدرسة الواقعية، ثم تناولنا (الفلسفة المثالية) بتبسيط شديد استغرق غالب محتوى الحلقتين السابقين.
وسيكون التركيز منصبّاً في هذه الحلقة الثالثة وما بعدها على (الفلسفة الواقعية)، وأعتقد أن الأمر سيكون أسهل؛ لأني أرى أن فهم الكلام الطويل الوارد عن الفلسفة المثالية السابقة، يستلزم بالضرورة فهم الكثير عن الفلسفة الواقعية، فهي الفلسفة المضادة لها إن صح التعبير، وبِضِدّها تَتَميّزُ الأشْياءُ، كما يقول أبو الطيب.
وبداية يحسن أن نشير إلى أن الكثيرين يرون أن الفلسفة الطبيعية لم تأتِ أصلاً إلا كردة فعل على الآراء والأفكار التي طرحها الفلاسفة المثاليون، الذين يؤكّدون باستمرار مثلاً على أن العقل هو المصدر الحقيقي للمعرفة.
فجاء الفلاسفة الواقعيون بتوجه آخر لا يرى العقل بذاته مكانًا لوجود الحقائق كما يُعبّر كثير من المثاليين، بل يرون العكس، وهو أننا نستطيع الوصول إلى الكثير من الحقائق الصحيحة اليقينية الثابتة (في الواقع) خارج العقل الإنساني، وكل ما نحتاجه في نظرهم هو بذل جهود تجريبية واقعية تطبيقية موضوعية حسيّة عملية، للوصول إليها. فغالب الواقعيين لا يرون صحة الاعتماد على ما يسمّى بالأفكار الفطرية أو الضميرية أو الحدسية أو ما شابه من الكلمات التي تتكرر عند المثاليين في دائرتهم الروحانية العقلية.
وهناك من يسيء فهم الفلسفة الواقعية ويراها عدوة للعقل بشكل تام، وأن الأفكار في هذا التوجه الفلسفي لا قيمة لها وما شابه، والصواب أن هذا ليس صحيحًا على إطلاقه، فهناك فلاسفة واقعيون ويهتمون بالعقل أيضًا؛ ولكنهم ضد المبالغة في تقديس الجانب المثالي، فهم يرون أن الأفكار لا بد لها من (تجارب حسيّة) ولا بد لها أيضاً أن تنسجم مع الواقع المادي في المجتمعات التي تردد تلك الأفكار العقلية.
ورغم اتفاق فلاسفة الواقعية على كثير من الأمور، كاتفاقهم على أن المادة هي الواقع الأقصى، فكل ما نشاهده في هذا الكون من شجر وثمر وبحار وأنهار وأفلاك وجبال... إلخ. كل هذه المذكورات وما شابهها في النهاية أفكار في عقول البشر الذين شاهدوها فقط، فهي - عندهم- مستقلة عن العقل الذي يتصوّرها، وليس لها مكان ميتافيزيقي آخر بعيد متوار في (العقل الحقيقي أو المثالي المطلق) كما يزعم الكثير من المثاليين.
والمهم هو أن فلاسفة الواقعية رغم اتفاقهم على هذا الأساس وغيره، إلا أنهم يختلفون في جوانب متعددة تفصيلية، ولذلك تم تقسيمهم إلى عدد من المدارس أو المذاهب الثانوية الفرعية.
ومن أبرز مدارس الفلسفة الواقعية مثلاً الواقعية الدينية أو الكلاسيكية، التي يحسن بنا أن ننظر إليها من وجهين، الوجه الأول هو الوجه الأرسطي، نسبة إلى أرسطو، الذي سنتحدث عنه.. وخلاصة مواقف الفلاسفة المتأثرين بأرسطو هي أنهم يرون أن العالم الماديّ عالم واقعي مستقل، يوجد خارج عقولنا.
والوجه الثاني هو الوجه الأكويني، نسبة إلى القس الإيطالي توما الأكويني، وخلاصة موقفهم هو أن الله –وفق النظرة المسيحية- خلق هذا الكون بتنظيم وحكمة وعقل، حيث أوجد المادة والروح مع بعضهما فيه، أي في الكون المخلوق، وهذا برهانهم على واقعيته، وبالتالي فكل ما يخلقه الله فهو في نظرهم حقيقي وواقعي. والحقيقة أن في رؤيتهم قدرًا كبيرًا من العقلانية، فبعد أن آمنوا بخلق الله للروح والمادة معًا، قالوا إن الروح ليست أكثر واقعية من المادة؛ ولكنها أهم منها في نظرهم، والحجة هي أن الله نفسه روح، وبذلك تسمو الروح على المادة، والحقيقة أن كل كلامهم هذا يرتكز في النهاية إلى نظرة المسيحية، فتوما وجماعته مسيحيون تأثروا كثيرًا بالكتاب المقدس، فهم مؤمنون بالله بقوة؛ ولكن إيمانهم القوي هذا لم يمنعهم من الاهتمام بالعقل والتجربة معًا، بل اهتموا بذلك اهتمامًا هدفه خدمة إيمانهم ومساندته.
وسنتناول بشيء من الإسهاب أحد أهم فلاسفة هذه المدرسة الواقعية الكلاسيكية، وهو أرسطوطاليس كنموذج، والسبب هو أني لم أكتبُ عنه أيَّ شيء في مقالاتي الفلسفية السابقة، فمن هو وماذا سنكتب عنه؟
هو أرسطو، ويعرف أيضًا بأرسطوطاليس، وهو تلميذ أفلاطون، فقد قضى في أكاديمية أفلاطون سنوات طويلة كطالب عند أفلاطون، الذي أعجب به أيما إعجاب، فوصفه بأوصاف منها مثلا: (عقل الأكاديمية) ومنها لقب (القرّاء) وهي صيغة مبالغة على وزن الفعّال، فيها إشارة إلى كثرة وسعة اطلاع أرسطو.
فهو فعلا كما اتفق الكثيرون عالم بحر موسوعي، وفيلسوف كبير، ويكفيه فخرًا مثلا أنه -عند عدد من الباحثين- مؤسس (علم المنطق) وغيره من الفروع المختلفة في مجالات المعرفة. ولا شك أن تأسيس علم المنطق من أهم أعمال أرسطو الكبرى، فقد كانت الفلسفة في زمنه تمتاز بأنها نشاط شفوي؛ فأراد بتأسيس المنطق جعل مفاهيم البشر أكثر ترتيبًا وتنظيما.
وأعتقدُ أ ن ماركس لم يخطئ حين قال عن أرسطو: «ذاك هو أعظم مفكري العصور القديمة»، فقد أعجبتُ كثيراً بكثير من كتاباته، التي قضيتُ معها أوقاتاً طويلة.. خذوا منها مثلا هذا النص الجميل، وعنوانه: «الطبيعة والأصل» ، وقد اختزلته في فكرته الأم، وهي أن أرسطو أراد بكتابته هذه تقسيم الكائنات من حيث طريقة أو كيفية الوجود إلى قسمين، أولهما الكائنات التي توجد بالطبيعة، كالحيوانات وأجزائها، والنباتات، والأجسام البسيطة كالتراب والنار والماء والهواء... فيقال عنها وما يشابهها إنها وجدت بالطبيعة؛ والتعليل هو أن بينها روابط الحركة والسكون والتعلّق بالمكان والتطوّر الكوني والفساد والزوال.
وهذا ما يجعلها تختلف كليًا عن تلك التي (لا توجد بالطبيعة)، كالسرير والمعطف وما ينتمي إلى جنسهما، من الأشياء الفاقدة لمعنى النزوع الطبيعي إلى التغيير، إلا من حيث كونها صُنعتْ عرضا من حجر أو خشب أو أي عنصر مماثل لهما. ومن خلال ذلك يصل أرسطو إلى أن الطبيعة مبدأ وعلة لحركة كل شيء وسكونه، علة حاصلة فيه مباشرة بالماهية لا بالعرض.
وخذوا أيضًا كمثال ثانٍ هذا النص الذي أعجبني جدًا، وعنوانه: «الذات وحدة: نفس- جسم» حيث يشير أرسطو في بدايته - حسب الترجمات العربية- إلى أن الإنسان يتألف من نفس وجسم، وجزء منهما مسيطِر، وجزء مسيطَر عليه، وفهمت من كلام أرسطو أن سبب سيطرة النفس على الجسد هو وجود العقل فيها، أي في النفس، ولذلك فقيمتها أعلى من قيمة الجسم، لأنها أعلى منه درجة في السيادة والسيطرة، من خلال ملكة التفكير.
وُلد أرسطو في ستاغيرا في تراقيه على بحر إيجة، وتربَّى في أثينا بمدرسة أفلاطون كما أسلفنا، إلا أنه عارض أستاذه كثيرًا، وقد بدأتْ هذه المعارضات والمحاورات مبكرًا، فقد كان أرسطو يأخذ صفة المعلم في الأكاديمية عند غياب أفلاطون، واستمرَّتْ هذه المعارضات حتى وصل إلى انتقاد نظرية (المثل) الشهيرة لأفلاطون، إلا أنه لم يتمكن من التغلب على مثالية أفلاطون تمامًا خاصة في قضية المثل، أو (الصور المفارقة) كما يعبّر البعض، ولذلك يرى الكثيرون فلسفته خليطًا من «المثالية والمادية».
وكما درس في أكاديمية أفلاطون، فقد أسس أرسطو مدرسته الخاصة أيضًا في أثينا.. ويرى البعض أن أفضل مدخل لفلسفته معرفة أنه من أفضل من ميّز بين الفلسفة النظرية التي تهتم بالوجود وما فيه وعلله وأصوله، والفلسفة العملية التطبيقية التي تتناول النشاطات الإنسانية المختلفة.
وقرر أرسطو أن الطبيعة كلها - دائمًا وأبدًا- في تحوّلات متتابعة، من المادة إلى الصورة ومن الصورة إلى المادة، وكان مؤمناً أن المصدر الأول لجميع الحركات هو الله، ويُعبّر عن ذلك بعدة عبارات منها قوله مثلاً: «المحرك الأول الذي لا يتحرك». وتلقَّفَ كثيرٌ من المتدينين المؤمنين بالله في مختلف الأديان مقولة أرسطو هذه وتناولوها بأساليب فلسفية مختلفة، نتج عنها الكثير من الكلام الجميل الذي لا يزيدنا كمؤمنين إلا إيمانًا بوجود الله وعظمته. وهذا ما جعل الكثيرين من أهل الفلسفة يثبتون أن لأرسطو نظرية مثالية رائعة، وأكثر موضوعية من مثالية أفلاطون، وأعمق منها وأكثر منها دقة وقربًا وملامسة للواقع.
أما من الناحية الأبستمولوجية، فيكفي هنا أن نشير إلى أن أرسطو - في نظرية المعرفة- فرّق بدقة بين اليقين الواضح واليقين الظنّي المحتمل؛ ولكنه رغم هذا التمييز الدقيق كان يربط بين هاتين الصورتين من المعرفة برابط اللغة دائمًا. ومع أنه من رواد الاتجاه الواقعي كما يصنّفه الكثيرون، إلا أننا نجده يضعِّف من التجربة أمام العقل أحياناً، ومن ذلك أنه كان يعتقد أن عملية (قوة التحقق) والتأكيد النهائي لأيّة معرفة ظنية، لا يمكن أن تتم بشكل قطعي كامل إلا عن طريق العقل، لا عن طريق نتائج الحواس، ومع ذلك فقد اتضح من فلسفته ميله الشديد دائمًا إلى الجمع بين الاستنباط والاستقراء.
وكان أرسطو يؤكد مرارًا وتكرارًا على أن أرفع وأسمى الأنشطة العقلية هو التأمل، والمثال الأعلى للأخلاق عنده هو «الله» أكمل الفلاسفة باعتباره عقل يعقل ذاته على حد تعبيره. وأوضح أرسطو في نظريته عن المجتمع نقطة مهمة، وهي أن (جذور العبودية قائمة في الطبيعة)، ولذلك اعتبر (قمة سلطة الدولة) تكمن في قدرتها على ردع الناس عن الاستخدام الأناني السيئ لقواهم الطبيعية.
يُصنّفُ أرسطو على أنه فيلسوف تجريبيّ، وانشغل كثيرًا بتصنيف العلوم، وكتب في مجالات كثيرة قلّما تجتمع لفيلسوف آخر، منها الأخلاق والميتافيزيقا والمنطق والاستطيقا والسياسة والعلوم، وخصَّ التربية بكثير من الاهتمام؛ ومن ذلك أنه يرى أن المرأة يكفيها القليل من التعليم، ويبرر أنه لا يقصد انتقاصها أو تضعيف قدراتها العقلية، وإنما يقصد أن مهمتها الأساسية في منزلها لتربية أطفالها ورعايتهم، وهي في نظر أرسطو تابعة للرجل، وتختلف عنه في مقوماتها وطبيعتها...إلخ.
وائل القاسم - الرياض