ولو كان الأمر بيدي لقلت بتحريمها إن أتت وفق النسخة المحلية التي يتقاطر المؤلفون فيها إلى الجمهور يمنحونه كتبهم وعصارة أفكارهم في إصدارات دفعوا قيمة إخراجها وطباعتها من جيبهم الخاص دون أن يتلقوا ريالاً واحداً، وأحياناً لا يتلقون كلمة الشكر على أقل تقدير.
ليس من حقي إصدار فتوى، رغم انتمائي إلى عالم يضج بها، ويسير وفقها مرغماً أو طائعاً.. ومجالات الإنتاج الفكري والثقافي طالتها يد الفتوى منذ زمن، ودفع البعض حياتهم وضاقت الدنيا على آخرين لسوء فهم أو رأي غير قابل للتداول أو النقض، أو رافض لأدنى عناصر التآخي والتقارب.
ومن ظريف ما يتعلق بهذا المجال كتاب فريد جمعه عبد الإله الشائع قبل عقدين تقريباً بعنوان «فتاوى عن الكتب» يرصد كل رأي ديني عن الكتب مثل إصدارها، حرقها، سرقتها، احتكارها أو الاتجار بها.. ومرت الأيام فقرأت فتوى حول ظاهرة توقيع الكتب وتهافت المؤلفين عليها يقول أحد العلماء فيها: إنها تقليد وظاهرة جديدة، والكتب مملوكة للقارئ وليست هدية من الكاتب... وكأن الذين يفعلون ذلك يتبركون بوضع المؤلف اسمه على نسخهم، وهذا مستبعد إلا أن يكون المؤلف ممن يُعتقد فيه على طريقة الصوفية. ويضيف: وبناء على ما سبق فأقل أحوال مثل هذا الفعل الكراهية لما فيه من التشبه، ولأن لا معنى له ولما قد يورث المؤلف في نفسه من العجب، وكذا ما يورث طالب التوقيع من تعظيم المؤلف والنسخة الموقع عليها».
ولو علم صاحب الفتوى ما يجري حالياً لقال بالتحريم دون جدال في ساحة لا يمتلك القارئ النسخة ثم يسعى إلى المؤلف لنيل التوقيع، بل يقدم المؤلفون كتبهم مجاناً إلى قارئ قد لا يحتفل بها، أو يتخلص منها عند أقرب منحنى أو طاولة شاي في بهو فندق أو صالة احتفال فيذهب الجهد الفكري والمالي هباءً بمباركة قارئ لم يبذل جهداً ولا مالاً ولم يحركه حرص الاقتناء والبحث عن الكتاب الذي يلبي حاجته أو هوايته.
الكتاب جزء من الدورة الاقتصادية، وإنتاجه يتطلب شركاء يجدر بهم التآلف لصالح كل الأطراف لكن ما يجري غير ذلك. والسائد أن المؤلف يصرف وقته، ويدفع ماله لإخراج كتابه ثم يوزع نسخاً مجانية ويسعى إلى حفلات التوقيع ووسائل الإعلام الثقافي مستجدياً، وهو في ذلك يهدر مالاً، وقد يريق «ماء المعرفة والفكر» في ظل تقاعس المؤسسات الثقافية ودور النشر عن أداء أدوارها الاحترافية. يفعل كل ذلك ليحظى ببعض الحفاوة والانتشار بتكاليف يدفعها من جيبه وعلى حساب حياته وأسرته، وأظن في ذلك دواع لتحريم الظاهرة والحد منها فهي في تزايد غريب وفق نسخة محلية تتجافى عن الأنماط التي درجت عليها معارض الكتب ودور النشر في عمليات تسويق الكتب وتنشيط حركة البيع التي يستفيد منها المؤلف والناشر معاً.
حفلات التوقيع من منظومة الترويج والدعاية غير المباشرة لزيادة الطبعات، وتعميق العلاقة بين المؤلف والقارئ، ولا يوقّع الطرف الأول على النسخة إلا بعد شرائها من الناشر لتحمل قيمة معنوية بالتوقيع عليها، وتصاحب عمليات التوقيع قراءات نقدية أو عروض فنية، أما ما يجري لدينا فهو امتداد لوعثاء الرحلة التي يتعرض لها الكتاب والكاتب معاً حيث يتبرع الكاتب بمئات النسخ تذهب بلا مقابل مادي، وأثرها المعنوي محدود أيضاً، وهي في تزايد مريب جداً إذ شهد أحد المعارض قبل عام 260 توقيعاً، وأظن المعارض القادمة سيكون الموقِّعون فيها أكثر من الإصدارات الجديدة يحكمهم شغف الضوء والتسويق، وقد تضيع الكتب الجديرة بالاحتفاء في زحمة الفلاشات والصراخ والتسابق المحموم!!
محمد المنقري - جدة