كُلُّنا نعلم كم سلبتْ مِنّا التّقنية من خصوصيّة، وهدوء.
كيف اختطفتنا مِنّا، حتى ضِعنا عن بعض تفاصيلنا، وتفاصيل أحبتنا.
هذه السرقة التي جاءت في وضح النهار؛ صارت شرًّا لا بد منه.
فأحداث اليوم الواحد - إذا كنت من غير مرتادي التقنية - كفيلة بأن تخبرك؛ بأنّ الكل صار يعلم، وأنت آخر من يعلم.
هذه الضرورة التي أفقدتنا نعيم الغفلة عن الأخبار المؤلمة؛ تحتاج إلى بعض الضوابط إذا سلّمنا بصعوبة الانسلاخ عنها.
فإن لم تكن الهجرة عنها جماعيّة، فلن تستطيع أن تعود منها وحدك؛ لأنّ عودتك الفرديّة، ستضرب بينك، وبين الواقع بباب من حديد.
(الواتساب) يكاد أن يكون من أكثر هذه المواقع إثارة للجدل؛ لارتباطه برقم هاتفك، وبأشخاص تعرفهم، ويعرفونك.
(الناضجون) أمام هذا البرنامج انقسموا إلى: رافض له، ومؤيد دون قيد، ومؤيد له بقيود.
القسم الأخير؛ هو من يرى بضرورة استخدامه في مجالات عمليّة؛ تيسيرًا للتواصل، وتسريعًا لوصول التعليمات لأكبر عدد من المنتفعين بها في مجالات العمل عن طريق إنشاء مجموعات.
تلك المجموعات التي ستجد نفسك مزروعًا فيها دون إذنك؛ لأنّ مصلحة العمل تتطلب ذلك.
ومع إيماني بأنّ (الواتساب) مختلس الهدوء، إلا أنّ إيماني بضرورته في تيسير العمل تفوق ضجري من ضوضائه.
فهذه التّقنية تحديدًا، لو استثمرت جيّدًا؛ لن نحتاج معها إلى عقد اجتماعات، تتطلب مِنّا التّسمر أمام طاولة، كان الاجتماع فيها ساعة، وتحول - بقدرة الله- إلى ثلاث ساعات؛ لأنّ أحدهم استفتح الاجتماع؛ بحكاية ابنه العنيد، فيما تحوّل البقيّة إلى وضع القهقهة؛ يمتطون صهوة المزايدة في الحكايات، وتتفاجأ بعدها بأنّ ما على طاولة الاجتماع؛ كان حكايات منزليّة، لا عمليّة!
أمام هذه التقنية؛ ستظهر لك شخصيتك الحقيقية، وستتعرف على نفسك من جديد ؛فيما يتعلق بقدرتك على ضبطها أمام المخترقين لصفاء وقتك، وخصوصيته.
النّاس لا يتشابهون في تعاملهم مع هذا البرنامج؛ فالبعض قد يراقبك حتى يظفر بك وكأنك فريسة!
فإن رآك متصلًا، أعطى لنفسه الحق في مداهمتك، إما باتصال، أو حديث، دون أن يخطر في باله أنّك ربما في تلك اللحظة تناقش قضيّة مصيريّة، أو قرارًا جماعيًا مع مجموعة عمليّة أو علميّة.
كلّ هذه التّفاصيل؛ لن يفكر فيها من ينظر إلى هذا البرنامج على أنّه مجرد تسلية.
وضعك في سياق عمل جاد من خلال هذا البرنامج؛ سيجعلك في غير شخصيتك التي اعتدت من خلالها على أن تحافظ على علاقتك مع الآخرين.
ولأنّ ردة الفعل منك في مثل هذه الحالة، ستكون جادة، أو فَضّة بعض الشيء؛ ستجد نفسك مضطرًا لتجاهل من قطع عليك الطريق؛ ليحدثك في غير ما أنت غارق فيه، حتى لا تخسره.
ستختار أن تحدثه في وقت آخر، لتعطيه من هدوء روحك؛ وتشرح له بأنّك كنت مشغولًا، إلا أنّه في الغالب سيغضب؛ مما يضطرك لأن تكون صريحًا، واضحًا في إخبارك له بأنّك لا تمتلك وقتًا كافيًا للتواصل عبر هذا البرنامج.
البعض الآخر قد لا يكون مشغولًا بهذا القدر،إلا أنّه لا يحب التواصل عن طريق هذه التقنية، رغم اضطراره لقبولها لأسباب تخصه.
بعض هؤلاء قد لا يمتلك الجرأة؛ ليخبر جهات اتصاله بأنّه يختنق من رسائلهم الدائمة، ومن حديثهم المستمر، مما يضطره إلى أن يتخذ طريقة خاصة لحل هذا الإشكال؛ فيضع هذا البرنامج في جهاز آخر مهمل حتى يعتاد الآخرون على عدم تواجده؛ فيتحرر من المحاصرة.
البعض في مسألة جبر الخواطر فاق حدود الوسوسة!
فمع الخطوة الثانية - جعل البرنامج في جهاز آخر- تراه حريصًا جدًا على ألا يقرأ الرسائل عند أوّل دخوله الشبكة، بل ينتظر حتى يعود لفصلها؛ ثم يقرأ كلّ الرسائل دون أن يظهر للمرسل ذلك؛ فيكون بمأمن من غضبه، وفتح باب العتب.
بعدها يأتي دور تأنيب الضمير؛ هل يرد أم لا؟
ولا يعلم أنه بهذه الطريقة أيضًا، سيخسر صفاءه الذي قطع كل هذه المسافات الملتوية للحفاظ عليه!
وربما تبدأ مرحلة النفور النفسي من كلّ هؤلاء الذين اضطروه إلى أن يتحايل، ولا يكون على طبيعته.
هذا التّكلف في الهرب من الآخرين؛ صار مشكلة هو الآخر، فمداراة الخواطر مع زخم المشاغل، سيجعلك في حالة طوارئ دائمة تستفزك، وتسرق منك راحة البال.
الوعي بضرورة احترام الخصوصيات؛ لا يتطلب الهرب من المواجهة، ومداراة الخواطر، بل يحتاج إلى الجرأة المهذبة في نشر ثقافة الوعي بضرورة احترام خصوصية الرقم.
فكما كنا سابقًا نحترس من أن نهاتف، أو أن نرسل في أوقات غير مناسبة، كذلك الحال مع هذا البرنامج.
يجب أن ندرك أنّ خصوصيته، لا تقل عن خصوصيّة الرقم ذاته، وأن ننتقي كلّ ما نرسل حتى لا تزدحم ذاكرة هواتفنا بالغث والسمين.
هذه التقنية التي خدمت، وقربت البعيد، واختصرت الوقت لنا؛ تحتاج إلى شريحة واعية تعي معنى أن نقدر النعمة التي وهبها الله لنا، فالتواصل السريع نعمة عظيمة إذا جاء في غير إسراف، ومضيعة للوقت.
د.زكية العتيبي - الرياض