بينما كنتُ أسير ردهات الطابق الثاني من كليتي الحبيبة (كلية اللغة العربية) استرعى انتباهي مشهدُ لوحةٍ حزينةٍ كُتبَ عليها «قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي»، كان الحزنُ والوجومُ ظاهرين على (البلاغة) أكثر من أخويها (المذكَّرين)!
قلتُ لنفسي:
- ما بال المسكينة؟ كأنما تخرَّمتها بوائقُ الدهر، ورماها الزمانُ بسهامه!
استجمعتُ قواي، واقتربتُ منها، سلَّمتُ عليها فلم تردَّ عليَّ سلاما، ولم تلقِ إليَّ بالا.. لم أشأ أن أتركها على هذه الحال، فبادرتها بالحديث متسائلاً:
- ما بالكِ يا أختَ الفُصحى؟ وعلامَ حُزنُكِ وإطراقُك؟
رمقتني شزراً ثم أطرقتْ قائلة:
- سلْ أصحابي عمَّا بي ودعني وشأني، فهم أعرفُ بما بي، وأخبرُ بحالي وما حلَّ بي!
قلتُ:
- أولستِ البحرَ الذي لا ينضب؟ والعمرَ الذي لا يُسبر؟ بكِ تُستمال القلوب النافرة، وتُستصرف الأبصار الطامحة، تصنعين في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة..
ارتسمتْ على محيَّاها ابتسامة ألم، وما كنتُ أعلمُ قبل أن أراها أنَّ للألم ابتسامة! ثم قالت وعيناها تفيض من الدمع:
- لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويلٌ للخليِّ من الشجيِّ، هاكَ حكايتي مع هؤلاء!
ومدَّت يدَّها مشيرةً إلى مكاتب الأساتذة:
- لقد جارَ عليَّ أبنائي، وأساؤوا معاملتي بطريقة تدريسهم لي، تلك الطريقة التي تلغي كلَّ دورٍ لي في إظهار الجمال، وتستبعدُ كلَّ أثرٍ لي في الكشف عن الفنِّ البديع التي تزخر به النصوص، وما خُلقتُ إلا من أجل ذلك!
لقد رسموا لي صورة (عجوزٍ شمطاء)، وأنا (الغادة الحسناء)، وألبسوني أسمالاً بالية ممزقة مهترئة، وما كنتُ ألبس إلا القشيب الفاخر من الثياب، قل لي بربك: متى كنتُ أعتمد على (العقل) و(المنطق) و(التقعيد) و(الأسس الثابتة) التي لا روح فيها ولا حياة؟ إنما نشأتُ على (الذوق) و(الشعور) بالجمال و(الإحساس) به و(التعايش) معه.
أنا لا أتبرأُ من أبنائي، ولا أنكرُ فضل (المفتاح) و(الإيضاح)، لكن مِن أبنائي مَن هو بي أبرُّ، وأكثر عنايةً وشفقة، ثم إنَّ الحياة تغيَّرتْ، ويجب أن نواكب هذا التغيُّر، ونمتزج مع الحياة الجديدة.
هنا.. التفتتْ المسكينة إلى مكاتب الأساتذة، وتنهَّدتْ بصوتٍ منخفضٍ وتمتمتْ:
- يا ليت قومي يعلمون!
أشفقتُ عليها، وتحسَّرتُ على مصيبتها، فقلتُ هامساً:
- وما الحلُّ في نظرك يا سيدتي الجميلة؟
كفكفتْ دموعها الحارة، وعدَّلتْ من جلستها، واشرأبَّتْ إليَّ قائلة:
- أوَ تسمعني؟
قلتُ: كلي آذانٌ صاغية..
قالتْ: أنا أُدَرَّسُ في الكلية ثمانية فصولٍ دراسية، والمطلوب أن تُخصَّص ستةُ فصولٍ منها للدراسة التراثية من أمَّهات كتب البلاغة، ولا أرى أجدر من كتابي عبدالقاهر (الأسرار) و(الدلائل)..
وهنا تحدَّرتْ من مقلتيها دموع الأسى؛ إذ ذكرتْ أبرَّ أبنائها بها.. ثم أردفتْ:
- تُختار نصوصٌ من الكتابين، وتُدرَّس الطلاب، بحيث يُنشَّأون تنشئةً بلاغيةً قوية، ثابتة الجذور، ولا يكتفون بهذين الكتابين، بل يدرسون نصوصاً منتقاة من كتبٍ بلاغية جيدة كـ(الصناعتين) لأبي هلال و(منهاج البلغاء) لحازم القرطاجني، وهكذا يتسلَّح الطالب بأسلحةٍ تراثيةٍ فعَّالة، حتى إذا وصل إلى الفصلين الأخيرين خاض معركة (العصر) وهو واثقٌ من النصر، فيدرس البلاغة بالمناهج الحديثة، خاصَّةً الغربية منها، ولو بصورةٍ موجزة، على أن تُحشد له النصوص التطبيقية التي يُحكِّم معها وفيها ذوقه وحسه، عندها فقط يتخرَّج من الجامعة وقد صار رجل بلاغةٍ بحق!
- قلتُ: وماذا تنتظرين! لم لا تجاهرين بمطالبك المشروعة؟ إنهم أبناؤك ولن يردُّوا لكِ طلباً..
هنا.. عادت حكاية الحزن والأسى ترتسم على قسمات وجهها من جديد، وأطرقتْ على مضضٍ قائلةً بصوتٍ خافت كسير:
- وما الذي ترجوه من صيحةٍ في واد؟!
- الرياض
Omar1401@gmail.com