(1)
تبدو الكتابة عن الأخلاق المألوفة مسألة مكرورة، ولا يُفضي الإطناب بها أو الإيجاز إلى شيء جديد غير ما تألفه الناس، وعليه تقاس وتمعير أمورهم ومواقفهم، فالأخلاق مكانها الواقع وليست منظومة فكريّة؛ وقد يبدو مستهجناً مثلاً: أن تكتب عن الخير في سياقات لم يألفها الناس وتعاكس أهواءهم أو ما درجوا على الاتفاق عليه: (وهذا الاتفاق عادة ما يكون ظنّياً، حيث تختلف الأخلاق في تفاصيلها بين عائلة وأخرى ومنطقة وأخرى وهكذا دواليك)، أو تكتب عن الشرّ في سياق مختلفٍ بحيث لا يبدو منبوذاً كما حاله فكرياً وثقافيّاً، ولا أقول كما حاله على أرض الواقع، فلأمرٍ اتّفق عليه أكثر الناس أن تكون الأخلاق على معانٍ متعارف عليها نظرياً، لكنّهم في المقابل يجرحونها عبر ممارساتهم اليومية، بطرق لا تنتهي من التغليف والتخريج واللف والدوران، وهذا تحديداً ما يؤكّد أنّ المعنى النفعية للأخلاق هو ما يمكن أن يجلب منفعة أو يبعد ضرراً، وليس في هذا ما يضرّ أو يناقض طبيعة الإنسان في تعدّديّة معاييره بين أقواله وأفعاله، بين ما يؤمن ويدافع عنه ويعادي الآخرين من أجله وبين ما يفعله، فهو حتّى تاريخه لم يحسم حيرته باتّجاه الماديّة البراجماتيّة: حيث إنّ الفعلَ سيّدَ القول وليس العكس كما تسوّق له التصوّرات الدينيّة والفلسفيّة التقليدية؛ وبصياغة أخرى: قد لا تكون المشكلة في أفعاله إنّما في أقواله، وهذا هو الإصرار الذي يتلبّس دُعاة أحاديّة الأخلاقيّة؛ فأنت بطريقة أو أخرى لا يمكن أن تكون دائماً أنتَ، وإنكار التحوّل اليوميّ تؤثّر على المرء زنة أموره أو يضطّر للازدواجيّة بين القول والفعل هي سمة غالبة في الكلام العربي المدلوق؛
وقد لا تكون المشكلة في الفعل أنه يجرح ما وضعته لنفسك من مبادئ وأخلاق، إنما قد يكون الخطأ في تلك المبادئ نفسها، فقد يتحوّل في موقف معيّن ما هو أخلاقي إيجابي مفيد إلى أخلاقي سلبي ضار، ويبقى القرار المناسب للموقف هو المعيار وليس القرار المناسب للأخلاق ومعاييرها النسبيّة، فأنت إذا افترضت أنّ الأخلاق ثابتة وواحدة في عموميّاتها، فأنت تفترض سلفاً أنّ الأخلاق محصورة في الوصايا العشر وما في حكمها، وتفترض أنّها لا تخترق ولا يتمّ تقويمها استناداً للظرف؛ فكلّما كان القرار متأثّراً بالأخلاق (المفترض) دون أن يلتفت للظرف أو الحالة التي تستوجب صناعة القرار فإنّها مثاليّة تُفضي في كثير من التجارب إلى إبقاء الحالة كما هي أو تزيد أزمة، وكلّما كان القرار متناسباً مع الحالة التي يريد علاجها فإنّه يكون أكثر براجماتيّة وأكثر نفعيّة وإيجابيّة.
* * *
وتمثيلاً في السياق الشعبي الحكواتي لتفسير سبب المثل: «اللي اختشوا ماتوا»: يُحكى عن حريقٍ وقع في حمّامٍ عموميّ للنساء في العصر المملوكي، فاللواتي أدركن الواقعة خرجن عرايا وسلمن من الحرق وهذا فعل براجماتي يرى الواقع أهم من الأخلاق إذا كان في هذا منفعة وفي ذاك مضرّة، وأمّا اللواتي كنّا أسرى الأخلاق وبعيدين عن الواقع رفضن الخروج فقتلن حرقاً. وبغض النظر عن وقوع الحكاية من عدمه فهي حالات قابلة للحدوث في كل زمن ومكان في ظروف مختلفة، والمقصدُ في قوّة المثل وحسّه الشعبي الواقعي والبراجماتي بحيث يضع المرء أمام معادلة: أنّ عصمة النفس أهم من الأخلاق ودونها كلّ شيء، بل تبدو الأخلاق نفسها مهلكة في هكذا مواقف، فالأصل.
كلّ شريعة تُعطّل عند الاضطرار: «فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عاد ....»، لأنّ الأصل والقيمة في الشريعة أنّها وُضعت لخدمة الإنسان، وعلى ذلك لا يمكن قبول الظنّ: «أنّ الشريعة أهم من الإنسان»؛
) الشريعة خادمة الإنسان، ولا يجوز أن يكون خادمها إلاّ على هذا المعنى: لتبقى خادمة له لا مهلكة، وذلك لأنّ الأصل في الدم: أنّ عصمة النفس رأس الشريعة.
) الأخلاق هي أيضاً خادمة الإنسان ولا ينبغي أن يكون الإنسان خادماً لها إلاّ على معنى خدمتها لتخدمه لا لتستعبده وتودي به إلى العذاب ومشتقّاته.
(ب)
إذاً: ماذا يعني الثبات على المواقف والمبادئ تبعاً لهذا التقديم؟
إلى أين يأخذك الثبات؟ ثمّ ماذا يعني أنّك صاحب مبادئ وأنّها ثابتة لا تتغيّر مهما تغيّرت الظروف والأسباب؟
أكتب من بداية هذا الموسم الثقافي موضوعات تنصبّ حول غياب الموضوعيّة في صناعة الفعل داخل المجتمعات العربيّة وعلى مستوى صناعة القرار السياسي الداخلي والخارجي مع دول الجوار.
الغيابُ هنا - تحديداً - هو غياب عن الواقع وشللٌ في إدارته، هو غيابنا عن صناعة قرار يناسب الظرف ويقدّم خدمة ومصلحة لوجودنا وليس لفكرنا، وجودنا أهم من فكرنا. والمؤسف أن تكون في دورات ثور الساقية وأنت لا تتوقّف عن ادّعاءاتك أنّك في سلالم الحضارة موهوماً أنّك تمشي وتمشي وتقدّم للإنسانيّة فائدة من هنا وأخرى من هناك، وحسبك (مستهلك، مكرّر) منذ الثورة العربية الكبرى انكمشت مسيرتك، أخذتك الدهشة وصدمة التحرّر الأوّل، فبقيت تدور في تلك الساقية، وسقط عنك أنّ ما فعلته ضدّ العثمانيين ثمّ الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين ليس إلاّ خطوة تحرّر باتّجاه الحريّة، فالتحرّر ليس حريّة إنما طريق الحريّة، ثمّ ها أنت من مستعمرٍ خارجي إلى مستعمر داخليّ، لست متحرّراً ولم تبلغ يوماً باب الحريّة، وما زلت دون خطوتك الثانية، وثالثة أخرى تشقّ نهراً من الدماء باتّجاه ردّة إنسانيّة عدميّة، تسقط عنك المعنى ويُهزم فيك الإنسان أمام ناظريك وفيك، ولا تهزّك هذه الهاويات أن ترى واقعك بموضوعيّة وتحاول أن تنهض بأدوات أرضيّة.
* * *
هل آذانا التمسّك بمبادئ نزعم أنّها ضرورية لبقائنا وحاملة لبصمة وجودنا وتمييزنا؟.. هل حقيقة أنّ هذه المبادئ مسؤولة عن هزائمنا وخسارة الإنسان فينا؟.. أم عاصمة لنا من الفناء؟
(ثم، وقبل ذلك) ما هي هذه المبادئ؟ ولماذا لم تعصمنا من هذه الهاويات، حيث لا قرار ولا قرار؟
تأمّل كم مرّة نستعرض تاريخنا الحديث وواقعنا بعيون (لو): (لو لم يحدث ذلك؟ لو فعلنا غير ما فعلنا؟ ما ضرّ لو؟ ماذا لو.. ماذا لو...) وأكثر تلك الاعتراضات والحسرات لهزائم وانكسارات وخسارات ما كانت لتحدث على هذه النتائج إن كانت صناعة القرار فيها قريبة من الواقع (براجماتي) وبعيدة عن مبادئ.. «معاذ الله نفرّط في البلاد والعباد ولا نفرّط فيها»!!
* * *
البراجماتيّة طبيعة في الحياة، طبيعة في الإنسان، طبيعة في «الجين الأناني - الأناوي - ريتشارد دوكينز»؛ فقوانين البقاء تستند إلى بقاء الأقوى تكييفاً (أصل الأنواع - تشارلز داروين)، (وليس الأقوى قوّة)، الأقوى هنا يقاس بمعيار التكييف والتأقلم والقدرة على التغيّر والتطوّر تماشياً براجماتيّاً مع البيئات المحيطة والتي تفرض شروطاً قاسية على النوع تجعله غير قادر على الاستمرار في البقاء ما لم يتمتّع بقوّة التكييف والتبدّل والتحوّل والتغيّر؛ وفي سياق تمثيلي إنساني: استطاع الحزب الشيوعي في موسكو أن يكون قطباً ثانياً في العالم من حيث القوّة لكنّه عجز عن قدرة التكييف مع طبيعته نفسها ومع شعوبه ومحيطه والعالم الخارجي، وما نراه اليوم من تقدّم في الاقتصاد الصيني يعود إلى إقحام التكييّف الاقتصادي مع القوّة الاستبداديّة للحزب، وهنا لا تكون الأخلاق أقوى من واقعيّة القفز فوقها تحت شروط البقاء والتكييف، وعلى هذا التصوّر فإنّك في معزل عن القوّة أو أنّ قوّتك لا تحميك من الفناء إذا كنت غير قادر على التكييف مع قدرة على القفز فوق الموروث الثقافي والمخزون الأخلاقي والقيد الاجتماعيّ لأجل الوجود والبقاء، بل والتفوّق أيضاً؛
هل يفتقد العرب القوّة العسكريّة أو القوّة الماديّة بصفة عامة أم يفتقدون قدرة التكييف مع الواقع؟ والتكييف هنا لا يعني الاستسلام لعدم تغيير الواقع، ولكن الاستسلام عن نكرانه، فأنت إذا ما رفضت الواقع بأدوات من خارجه عجزت عن إدارته ووقعت تحت سيطرته، حيث تأخذك الأمور والمواقف وتسلبك الفعل؟
- جدة