«لن تستقيمَ أُمورُ النّاسِ في عُصُرٍ
ولا استقامتْ، فذا أمناً، وذا رُعُبا
ولا يقومُ على حقٍّ بنو زمنٍ
من عهدِ آدمَ كانوا في الهوى شُعَبا»*
كنّا سألنا: هل بعد لذةِ بذلِ العلوم والمعارف وتحصيلها لذة؟!
نجيبُ نعم، فهنالك لذةُ تَمثّلِها والعملُ بها وتطبيقها بعد تحكيمها وعرضها على ميزان الحق والخير والجمال، وهذا ما يحقق التغيير الموجب والارتقاء للفرد، وهنالك بثها ونشرها وإذاعتها وإعادة إنتاجها وتعليمها لمن يمتلك قدرة التعليم، وبالتالي يتحقق التغيير والتطور للأسرة والمجتمع والأمة.
فالمعرفة المجردة لا قيمة لها إن لم تبعث على التفكير والتأمل، والعمل بما عُلم رغبةً في التغيير الموجب، ونشر هذا العلم ونفع الناس به.
فالثقافة التي تبني الحضارة وتعمم الخير وتشيع الجمال هي ثقافة الفعل لا القول، وثقافة الحب لا الكره، والتغيير يبدأ من الفرد، فلا يمكن أن تطلب من الناس تطبيق ما لا تطبقه على نفسك. فلا يمكن أن تحقق العدل والأمن والسلام على سبيل المثال لنفسك، وأنت تظلم وتخلّ بأمن وسلام الآخرين.
وهذا ما يحدث على مستوى الدول أيضاً، فلا يمكن لدولٍ تشن الحروب وتثير الفتن وتقتل البشر أن تحقق العدل والأمن والسلم لنفسها ومواطنيها خاصةً وقد أصبحَ العالم قريةً كبيرة. وهذا هو أيضاً سبب كل ما يجري في تصوري اليوم من خرابٍ ودمار وفوضى على مستوى العالم!
فالسياسات الكاذبة الظالمة لدولٍ تدّعي الديموقراطية، وتتشدق بالحرية وحقوق الإنسان، وتتنصل من ذلك مع غيرها، هي التي تسببت وتتسبب في هذا الظلم الواقع على الإنسان في بقية دول العالم، وهذا الذل والاضطهاد التي تعيشه شعوبٌ مزقها الاستعمار، ثم عاد بصوره ووجوهه الأخرى لينهي ما بدأه منذ قرون عبر شريعة الغاب والقرون الوسطى والأكاذيب القاتلة.
واليوم، والموضوع الرئيسُ الإرهاب، فإنه لا يمكن محاربة الإرهاب والتطرف دون تحقيق العدالة، ووقف الحروب الظالمة، والتوقف عن تأجيج الثورات الدموية للحصول على الكعكة كلها، فما داعش إلا وليدة احتلال العراق وتدميره، وتقديمه على طبقٍ مكسورٍ للفرْس، وما القاعدة إلا وليدة العبث في أفغانستان. وقد ثبت عبر التجارب المريرة أنه لا يمكن حل قضايا ما يسمونه الشرق الأوسط إلا بحل قضية فلسطين!
ولا يمكن حل مشاكل الفقر والمرض والفوضى في أفريقيا ودول الشمال المرفّهة تسرق خيراتها، وتتلاعب بأنظمتها السياسية!
إذاً لا يمكن أن تطلب التغيير من الناس، وأنت لم تغيّر ما بنفسك فتهذبها وترتقي بها.
ومن نعم الأجهزة الذكية اليوم سهولة ملاحظة ورصد التناقض والانفصام في المجتمعات عبر متابعة سلوكيات أبنائها وما تنتجه عقولهم عبر الوسائط الاجتماعية كتويتر مثلا.
فقد أصبحت الناس تقول ما لا تفعل، مع انحدارٍ شديدٍ في الأخلاق، وستلحظ بسرعة أن الناس تغرّد بأطنانٍ من المواعظ والحكم والمقولات الجميلة العربية وحتى الغربية، خاصة تلك التي تحض على الأخلاق الحميدة والمثاليات، لكنك بمتابعة صفحات ناقليها، تجد العجب العجاب من الشتائم وقلة الأدب والتأجيج الطائفي والمذهبي والتكفير والغيبة والنميمة وإثارة الفتن والتهكم على الشعوب والقيادات والدول، والتعالي، وتتفيه وازدراء الآخرين!
لكن دعونا نعود إلى ذالنا الذكية المسالمة، فذلك أسلم وأنقى وأبقى، فمن اللافت للمتأملِ في القرآن ولغته، لغةِ العربِ الذين آثر كثيرٌ منهم للأسف التغريب، بل وحتى الغريب، أن الذال تأتي في القرآن الكريم عبر تكرارٍ بديعٍ، وإيقاعٍ جميلٍ رقيقٍ على السمع، كما في:
( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) البقرة (255)
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) الحديد (11)
( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا) الكهف (83)
( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) يس (10)
( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) غافر (15)
ومن ذلك التكرار هذا البيت من قصيدتي «موطنُ الحسْن»:
أرضعْتَني الحبَّ ذَا قَلبي وذي شفَتي/ بالخَيرِ تنطقُ سبحانَ الذي سوّى!
سبحانه وتعالى، وهذا آخرُ ما جادت به الذاكرةُ مع الذال، فادعوا لصاحبها بالخير كي لا تذبلَ وتذوي!
*أبو العلاء المعري
- الرياض
mjharbi@hotmail.com