عندما أعلن نيتشه من خلال نظريته العدمية «تفنيد الإله».. تعالى الله عما يصفون؛ باعتبار ما لا يُدرك معلومة بالوعي فهو معدوم، وفي المقابل وضع تصوراً لتعبئة «فراغ الإله»، وكان ذلك عن طريق «الإنسان الأعلى» أو «التجسيد الأرضي للإله» لتعويض إدراكه اللا معلوم.
والحقيقة أن فكرة الإنسان الأعلى أو «التجسيد الأرضي للإله» ليست بفكرة جديدة على الأدب الغربي الذي عاد إلى التراث اليوناني بداية عصر التنوير، وفي ذلك التراث تكثر الأساطير التي تحول أبطالها إلى أنصاف آلهة أو رموز آلهة هذا من جانب، والجانب الآخر هي الفكرة التي تعتمد على عقيدة «الثالوث» المقدس في التراث الديني المسيحي؛ التي تقوم على أن الإله هو تكوين ثالوثي في جوهر واحد متسامٍ، وهم الأب، الابن، الروح والقدس.
ويعرف القديس بولس الابن بأنه «صورة الله الذي لا يُرى».. تعالى الله عما يصفون، والابن في عقيدة المسيحية هو «المسيح» الذي سيعود ليخلص العالم من الشرور ويبدأ الألفية السعيدة.
وهذا ما ذهب إليه نيتشه بأن لا إيمان بمعدوم الإدراك إلا بتشخيص مدرك معلوم أرضي.
لا يُمكن أن نُجنب المعتقدات الدينية للغرب ونحن نتحدث عن «إحياء فكرة البطل الخارق» في عصر التنوير حتى الآن، والتي خرجت من منظورها الفلسفي الأدبي إلى منظور تجسيدي عبر الفن السابع السينما.
وهذا القول لا يُبحر بعيداً عن المنطق، إذا لم يكن هناك ما يدعمه من واقع.
في الفكر المشيحاني اليهودي تسيطر فكرة «الحلولية»؛ توحّد الخالق مع المخلوق، والماشيّح فرد يقوم بمهمة خاصة يوكلها الإله له بعد أن يمنحه قدرات خاصة تُعينه على أداء تلك المهمة، وبذلك فهو»شخص مُرسل من الإله بقداسة خاصة، إنسان سماوي وكائن معجز خلقه الإله قبل الدهور يبقى في السماء حتى تحين ساعة إرساله، وهو يُسمى ابن الإنسان؛ لأنه سيظهر في صورة الإنسان، وإن كانت طبيعته تجمع بين الإله والإنسان، وهو نقطة الحلول الإلهي المكثف الكامل في إنسان فرد.»
ولذا لا نستغرب من نيتشه عندما يستبدل الإله بالإنسان الأعلى باعتباره التجسيد الأرضي للإله عبر الحلولية.
والحلولية عند نيتشه يعبر عنها بمصطلح آخر وهو «إرادة القوة».
تعتمد نظرية إدارة القوة عند نيتشه «لا يمكن أن تظهر إرادة قوة إلا من علاقة مقاومة، إنها تبحث عمن يقاومها».
وتلك العبارة لنيتشه قد تقودنا إلى ما يعتقده نيتشه أن الصراع هو أصل العلاقة بين القوى المختلفة، وهو اعتقاد مجلوب من التراث الديني الإنساني، الصراع الأول بين آدم وإبليس هو الذي تجلى في أمر الله لهما بالهبوط إلى الأرض ليقدِّر لكليهما الصراع الأبدي من خلال وصفه سبحانه وتعالى كلا منهما بالعدو للآخر، ثم الصراع الأرضي الأول بين هابيل وقابيل، والصراع الأبدي بين الأغبار واليهود.. وهو ما أشار إليه مولر لوتر «إن إرادة القوة هي تعددية قوى طابعها العلائقي هو الصراع»، وهو ما أدى فيما بعد الهوس على «سباق التسلح التقليدي والفضائي والنووي» بين الدول الكبرى.
إن معتقد نيتشه هذا فيه إلغاء للجوهر والموجود كسابق؛ ففي رأيه»العلاقات هي تؤسس الموجودات».
تذهب النظرية المعرفية قبل نيتشه أن علاقاتنا المكونة هي حاصل الجوهر والموجود، وهو ما يعني أمرين، الأول قابلية التوازن بين القوى، وهذه القابلية هي المثبّتة لفكرة الاختلاف لا الصراع، والأمر الثاني أن الجوهر هو ضامن للوحدة.
لكن نتيشه يجعل إرادة القوة المتحكمة في سيّر العلاقة ومضادها، ليتحول العالم إلى علاقات مضطربة،كما أن تلك العلاقات هي التي تُشكّل الجوهر والموجود، ولذلك نادى بموت الإله لأنه لا يؤمن بوجود جوهر المسبق، يتحكم في تشكيل العلاقات، إنما العلاقات من خلال إرادة القوة هي التي تملك تكوين الجوهر والموجود.
ولا شك أن هذا المنطق يقود كل شيء إلى «فوضى».
كما أنه يحدد قيمة القوة «بالأثر الذي ينتجه ويقاومه».
وبذا فهو يُخرج الأخلاق من تقييم قيمة القوة، كما أنه يُلغي ثنائية الشر والخير في معاييرهما التقليدية، فالعنف إذا كان القوة الأعظم أثراً من القوة الأخرى فهو المنصر، والقوى الأخرى هي الأضعف، هكذا يُبدّل نيتشه الخير والشر بالقوي والضعيف؛ لأن القيمة الأعلوية ها هنا هي قيمة مادية لا قيمة معنوية.
عندما سُئلت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت عن أطفال العراق النصف مليون الذين قُتلوا بالأسلحة الأمريكية وبأيدي الجنود الأمريكيين هل يستحقون ذلك؟ أجابت: «أنا أعتقد أن الخيار صعب للغاية، ولكن هل يستحقون ذلك أم لا؟ نعم أنا أعتقد أنهم يستحقون ذلك، ربما أنه ثمن غالٍ، لكننا نرى الهدف الذي نطلبه يساوي ذلك الثمن وأكثر منه».
هذا هو منطق أمريكا في التعامل مع أعدائها الخير يُحسب بالانتصار حتى لو بقتل الأطفال كما حدث في العراق أو بتهشيم رؤوس أطفال على الصخور أمام أنظار آبائهم كما حدث للهنود الحمر.
ولذا يقول «نيتشه» إن ماهية مقادير من القوة تتمثّل في مدى ممارستها لقوتها على مقادير القوى الأخرى».
إن الإنسان الأعلى بمفهوم نيتشه هو الممثل لإرادة قوته التي تفوق على إرادة القوة المضادة، ولذلك فهي من تتحكم في خلق مفهوم البطولة، فجوهر المفاهيم يتشكّل من خلال من ينتصر بقوته، وهو ما يعني أن اختلافات نوع العلاقة هي التي تحدد لنا ماهية القوة وفق المسار التبادلي في درجات صراعه.
إضافة إلى أن بناء الحقيقة غالباً ما تعتمد على العلاقات التي تُسيّرها القوة المتفوقة.
إن الحرب لو حاولنا ترميزها وصفياً وفق معادلة نتيشه فهي «الميدان» التي تُختبر فيه «إرادة القوة»، وإرادة القوة لا يُمكن تحديد عظمتها إلا من خلال قوتين متضادتين ومسار علائقي قادر على إنشاء حاصل داعم لفرق أعلويّ تمييزيّ يدعم تراتبية كمية كيفية؛ غالب ومغلوب، قوي وضعيف.
وهو ما يعني عنده أن نهايات المتوازنة لا تعبر عن إدارة القوة ولا تُشكل جوهراً.
وبذلك يصبح «اللا تبادل يعني اللا توازن، واللا مساواة، والهيمنة، والخضوع، والأعلى والأدنى، والتمييز الأرستقراطي ليس له أساس آخر غير قانون إرادة القوة،.. أي أكبر اختلاف ممكن، وبالتالي صدام، وصراع وتناقض.».
لكن ما مصدر الإرادة التي تتحكم في مقادير القوى ودرجات تأثيرها ومنافستها وتفوقها عند نتيشه.؟
إنها «المعرفة» هي التي تتمثّل من خلالها تفوق القوى وخلق الإنسان الأعلوي الذي يجسّد إرادة الإله في الأرض لن يتم إلا عن طريق المعرفة.
فيقول: «إن المعرفة عمل كوسيلة للقوة، فهي تقع إذاً تحت المعنى الذي يتسع مع أي توسع للقوة.»
وبذلك تُصبح شرطية الارتباط المتعالي بين إرادة المعرفة وإرادة القوة هو مصدر تفوق القوة، وبذلك يصبح كما يقول نيتشه «مقدار المعرفة يتناسب مع نماء إرادة قوة النوع».
«إن أقوى الرجال يريد أيضاً أعلى المعارف».
وهكذا، أسهمت إرادة القوة في ظهور نظرية صدام الحضارات، ونظرية المجتمع المعرفي،أو ما يُسمى العلم العظيم.
وسُميت المرحلة التاريخية ما بعد الحرب الباردة بعصر «العلم العظيم» مقابل «العلم ذي المقياس الأصغر الذي كان يُنفّذ في المختبرات قبل الحرب العالمية الثانية».
وكان الهدف من عصر العلم العظيم «إنتاج معرفة تفيد الديمقراطية الأمريكية في الصراع المصيري مع الأنظمة الجماعية الدكتاتورية المنافسة لها.»
ولذا فلا شيء يخلو من هيمنة سلطة الأيديولوجية.
- جدة