لا شك أن بناء القبيلة في المجتمع العربي هو بناء اجتماعي خاص، ولكن هذا البناء الاجتماعي كان واحداً من الأسباب الرئيسة لإعاقة التطور الحضاري والرقي المدني والعلمي والتأخر عن المجتمعات المتطورة في مختلف الميادين، بل إن القبيلة وما تفرضه من عصبية تداخلت مع الاستغلال الإيديولوجي والاستغلال السياسي في التأريخ العربي لتشكل اضطراباً في مفهوم الدولة تحديداً أهي امتداد للقبيلة أم هي مؤسسة حكم منفصلة عن القبيلة؟ هل المطالبات التأريخية حول الخلافة مجرد مطالبات قبلية اتخذت العصبية المتداخلة بالدين وبالإيديولوجيا ذريعة لتكوين «مفهوم الدولة»؟.. كيفما كان الأمر في هذه المسألة الشائكة الحساسة فإن ما تحصل إلينا هو اضطراب مستمر في مفهوم الدولة من حيث التباسه بالعصبية القبلية من جهة، والتباسه بالدين والإيديولوجيا من جهة أخرى، هذا الالتباس في مفهوم الدولة ما زال أحد عوائق النمو الفكري والحضاري للمجتمعات العربية بشكل عام.
أما « تكافؤ الأدلة» كما يقول عبد الإله بلقزيز في النظر إلى كون الطائفة أو المذهب أو القبيلة يمكن أن تقوم بما يقوم به مؤسسات المجتمع المدني فليس من التكافؤ في شيء وليس ثمة أدلة ولا حجج هنا.. وإنما مفاهيم إجرائية قد تصلح لمجتمع ولا تصلح لمجتمع آخر، ومفهوم المجتمع المدني هو من أهم المفاهيم الإنسانية في المجتمع الحديث بغض النظر عن البناء الإيديولوجي لذلك المجتمع، ولا يمكن أن نقول ثمة فرضيتين متعارضتين أيضا كما لا يمكن أن نبقي الحل معلقاً كما يذهب بلقزيز بمعنى إذا كان مجتمع ما ينتفع بالبنى العصبوية القبلية قبلنا بها اعتماداً على النظر في الوظيفة بغض النظر عن البنية كما أن المؤسسات المدنية إذا كانت أنفع فهي أجدر بنظرنا.. وهكذا يبقى الاضطراب والتذبذب في هذه المسألة المهمة دون فصل وهو تأجيل للمشكلات حتى تنفجر ذات زمن لا حلا جذريا لها يعتمد على بناء نظري متين.
وفي الحقيقة أن النظر في مسألة كهذه يعتمد على عدة جوانب : أهمها إعادة مسألة مفهوم الدولة، وإعادة مساءلة مفهوم القبيلة، وإعادة بناء المفاهيم الاجتماعية انطلاقا من واقع المجتمع العربي لا من واقع المجتمعات الأخرى ...
ففي مفهوم الدولة ينبغي أن يعرف أنها مفهوم اجتماعي تنظيمي لا يرتبط بمكون طائفي أو قبلي أو جهوي بقدر ما يكون عابرا وجامعا لكل مكونات المجتمع، قائما على العدل والقانون وتكافؤ الفرص حاميا لحرية التعبير وحرية الفكر، ضابطاً لتوزيع القيم في المجتمع لا منتجاً لها أو مؤثراً فيها... ولن نطيل الحديث هنا لنخرج عما نحن بصدده من علاقة القبيلة بمؤسسات المجتمع المدني.
وكي نجلي العلاقة لا بد أن نعود قليلا لمساءلة مفهوم القبيلة ذاته في التراث العربي، وكنت قد كتبت مقالا قبل عدة سنوات عنوانه « القبيلة والعرب والأعراب « وهو متاح في النت حاولت أن أعيد مساءلة هذه المفاهيم، وخلاصة ما يتعلّق بالقبيلة العربية أنها ليست نوعاً واحداً، بل هي على أنواع، وأهمها هي «قبيلة الأرض» أي أن القبيلة تتحول إلى مسمى للأرض التي تسكنها لا مجرد مسمى يشير إلى رابطة الدم، وهذه القبائل أقرب للاستقرار وللحضارة، وقد غلب هذا النوع على القبائل ذات الأصول القحطانية والقبائل الساكنة في الحجاز لذا يغلب في المسميات كما لا حظ ذلك أحد المستشرقين أن يطلق على تلك القبائل مسمى بلاد قبلها على سبيل المثال (بلاد غامد.. بلاد جهينة) وهكذا، ولذا ظلت تلك القبائل تحافظ على مسمياتها ومواطنها منذ الجاهلية حتى الآن، في حين تكون بعض القبائل أقل تحضرا وأكثر بداوة، فتلتهم ذاتها بذاتها، لذا تختفي حتى مسمياتها الأولى، كالقبائل التي في نجد وشمال المملكة والعراق.. أما الأعرابية فهي ليست مجرد صفة لمن كان موغلاً في البداوة من تلك القبائل كافة، بل هي صفة قيمية أو مفهوم قيمي لكل ما هو سلبي في القبيلة العربية عموماً، بل هي حالة أصبحت مكوناً من مكونات المجتمع العربي الحديث الذي انتكس ليتمثل تلك القيم حتى في الحواضر العريقة في الجزيرة العربية وفي خارجها..
والحقيقة أن القبيلة من النوع الثاني هي التي طغت في تنظيمها، وفي قيمها حتى على القبيلة من النوع الأول وأصبحت قيمها هي الشائعة، ونستطيع القول إن الحضارة العربية في أيام مجدها وفي عنفوان تطورها العلمي والقيمي والحضاري حرصت أن تضيف اسم المكان للنسب كميزة حضارية تنافس بها النسب إلى القبيلة فصرت ترى النسب للمدينة وللقبيلة معاً «كالدمشقي التميمي وكالبغدادي الأزدي، وكالقيرواني الفهري ... وهكذا» ولكن انطفاء شمس العرب ودخول الأمم المسلمة عليهم جعلهم يعودون يعتصمون بقبائلهم وإن بقيت التعقيدات الهائلة بين القبيلة والدولة والإيديولوجيا والدين مولداً دائما لاضطرابات لا حصر لها ...
إن مجاملة التكوين القبلي وتقوية الوعي الأعرابي تحديدا، واستغلال سذاجة الفهم والولاء القبلي لبناء الدولة الحديثة يعد مؤشراً خطراً للتراجع الحضاري أكثر منه حلاً للواقع الاجتماعي القبلي، ونتفق تمام الاتفاق هنا مع بلقزيز في أن المجتمع الأهلي «لا يقوى على أن يمارس أكثر من وظيفة الدفاع عن الذات في مواجهة خطر داهم، لكن إرادة التطور والتقدم في النظامين الاجتماعي والسياسي لن تكون - بكل تأكيد - حصاداً من زرع المجتمع الأهلي»
ولذا فإن الأولى أن يكون العمل على تمدين القبيلة لا قبيَلة المدن، وفي ظننا أن تمدين القبيلة مصطلح أداتي وإجرائي قائم على تقبل وجود القبيلة العربية واحترامها، ولكن في الوقت نفسه النظر إليها كمجتمع صغير يطبق فيه ما يطبق في المجتمع الكبير أي أن المجتمع العربي القبلي يجب أن يكون عبارة عن دوائر مجتمعية صغيرة ضمن دائرة الدولة الكبيرة، ويجب أن تحتوي تلك الدوائر الصغيرة على مفاهيم التحديث والحداثة كما تحافظ على مفاهيمها القبلية الاجتماعية بكل حرية، ولن يتحقق ذلك إلا بإيجاد مؤسسات مجتمع مدني في نسيج القبيلة ذاتها تقف في وجه تغوّل القبيلة وفي وجه القيم الأعرابية التي تتسرب إليها، كما تحمي حرية الفرد وحقوقه، ويمكن أن تسمى مثل تلك البنى (تمدينية القبيلة) وترتبط بمؤسسات لمجتمع المدني الموجودة في فضاءات المدن الكبرى في المجتمع العربي، وبذلك يرقى الوعي الحضاري، وتحد تلك المؤسسات من « تميدينية القبيلة « إلى « مؤسسات المجتمع المدني» من تخلف المجتمع وتزيد في ترسيخ الحياة الاجتماعية المستقرة بل تزيد في تعزيز قيم الحداثة السياسية والفكرية والمجتمعية التي يبنى عليها العامل المعرفي والعامل القيمي والشرط التنافسي مع العالم الآخر في إثبات الذات وفي التشارك مع المنظومة الإنسانية تشاركا إيجابيا فرضته أو أصبح في حكم المفروض من خلال وسائل التواصل التي لا تني في تقريب العالم من بعضه البعض بشكل يكاد يجلي كل شيء بشفافية لا مجال فيها للتهرب أو الاختفاء من الواجب الإنساني الذي يخترق كافة الدول الحديثة وغير الحديثة.
د. جمعان بن عبدالكريم - الباحة