كتبت مقالاً قبل هذا عن تلك الخواطر – خواطر وذكريات إبراهيم بن محمد الحسّون - قبل أن أكمل الجزء الأول منها.. والآن وقد انتهيت من قراءة الأجزاء الثلاثة البالغة 1334 صفحة.. وقد وجدت بها الكثير من المعلومات المهمة التي تطرق اليها بدءاً بالحياة الاجتماعية والعلمية بعنيزة ثم مكة وما جرى إثر وقعة المحمل في حج 1344هـ بين حرّاس محمل الحج المصري والإخوان بسبب الموسيقى.وقد اقتصر مقالي السابق على ثلاث وقفات أبكتني ولم استطع تجاوزها.. ولكني كلما قرأت ما تبعها وجدت من الكنوز المعرفية التي لم يسبق لي أن قرأتها وأحببت أن أشرك القارئ بها.
بعد أن استقر عند شقيقه عبدالله (الشرقي) في جدة ودخل المدرسة الرشدية ثم مدرسة الفلاح، بدأ يقارن الحياة الاجتماعية ما بين نجد والحجاز، ثم بدأ يعمل مع شقيقه في تزويد المنازل بالمياه بواسطة (الصهريج) وبداية علاقته بزملائه وأصدقاء أخيه، وطريقة أخيه في تربيته وقسوته عليه أحياناً، تركه العمل والتحاقه – دون رغبة أخيه ـ في مدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة، عودته إلى جدة، اختيار قائم مقام جدة إبراهيم المعمر له كسكرتير، عمله في بيت الفضل، وصفه الدقيق لجدة عام 1357هـ وأشهر طباخيها وأفرانها ودلالي الخضار والجزارين والمقاهي وتجارة اللبن والحليب والحلويات والمساجد والسنابك والخياطين وأول صيدلية وأول مصور فوتوغرافي وأول نادٍ أدبي، وحياة السمر والطرب بجدة وأشهر بيوتاتها.
انتقاله للمنطقة الشرقية للعمل في الجمارك مع مجموعة مختارة من أبناء الحجاز ووصولهم للرياض ومقابلتهم للملك عبدالعزيز والاستماع لنصائحه وتوجيهاته وحثهم على الإخلاص والصدق والأمانة والإستقامة وحسن المعاملة، وأن القادمين من أقصى الغرب يجهلون عاداتنا وتقاليدنا فلا بد من اعطائهم صورة مشرفة.
وصفه للطريق بين جدة والرياض والجبيل ووصفه لمينائى الجبيل والعقير.
نجده يصف كل ذلك بكل دقة.. فيقول : إن وصولهم إلى الدمام يوم 7 شعبان 1357هـ وذهابه مع أحمد لاري ممثل الحكومة لدى شركة أرامكو (كاسوك) وهو اسمها السابق ومقر الممثل بالدمام التي يصفها بقوله : « أنها تتكون من أكواخ من جريد النخل تسمى (برستيات) وكانت تمتد على رقعة من الأرض تبلغ مساحتها نحو كيلو مترين، لا يوجد فيها أي بناء إلا غرفة واحدة فقط، كانت مكتباً لممثل الحكومة لدى شركة الزيت، وكان آنذاك هو المرحوم إبراهيم رضوان، وكان أحد أعيان جدة..».
وقال يصف الخبر وعمل الجمرك بها أنه بدأ العمل في جمرك الخبر فور وصولهم في شهر شعبان 1357هـ ومعه أحمد قاسم وعبدالقادر با حفظ الله ويرأسهم شخص يدعى حسين مشاط هندي الأصل، مؤهلاته أنه شقيق زوجة أحمد لاري، وثقافته كانت محدودة جداً، وقال عن الخبر : «.. عبارة عن مجموعة من العشش، تنتشر على رقعة من الأرض قد لا تزيد عن كيلو متر مربع، وكان لا يوجد بها بناء سوى مسجد صغير يقع في الناحية الشمالية الشرقية، ولما كانت جميع المساكن عبارة عن عشش، فقد كنت تسمع المنادي كل صباح ينادي بالحرص والحذر من النار، وكثيراً ما كنا نضع الطعام ونتحلق حوله على هيئة دائرة، ونضع فوق رؤوسنا غطاء لتفادي الأتربة الساقطة من الجو، وكان من ضمن سكان هذه العشش بعض من كبار موظفي شركة الزيت من جنسيات مختلفة، منهم الزبيري العراقي كحجي بن قاسم وفيصل الماجد، ومنهم عجب خان هندي الأصل، ومنهم عبدالرزاق النصار السعودي الجنسية والد المرحوم نهار النصار، طيار جلالة الملك فيصل والملك خالد – ومنهم أحمد القصيبي وأخوه عبدالعزيز وعائلتهم، ومهنا المعيبد، وكان عجب خان أكبر الموظفين رتبة لدى الشركة.. وكنا نتزاور معهم ونلعب البلوت، وكانوا جميعاً على جانب من دماثة الخلق ووفرت الأدب وحسن المعاملة.. «.
وعن محلات بيع المواد الغذائية المتواضعة كبيع الخضروات التي تأتي من القطيف لعبدالله الفرج وبعض المعلبات التي تستورد من البحرين.. ثم بدأ يتوافد على الخبر شيئاً فشيئاً بعض المواطنين لفتح محلات تجارية متواضعة ومنهم : محمد وعلي التميمي من عنيزة والقاضي والسعدي بعد ذلك.
وعن ماء الشرب، حفرت الشركة بئراً ارتوازية في الطرف الغربي من البلدة، وكان هناك سقاؤون يزودون البيوت بالصفائح من هذا الماء، وكان يوجد في الخبر فرن واحد يديره شخص يسمى صالح الحساوي وهو عبارة عن تنور يصنع خبزاً عراقياً اشبه ما يكون بالتميس. وكان عدد سكانها وقتذاك لا يتجاوز مائتي شخص بما فيها سكانها الأصليين من بادية الدواسر، وذكر زيارة الملك عبدالعزيز للمنطقة بداية عام 1358هـ وذهاب الحسّون وزملاءه لرأس تنورة في المراكب الشراعية (اللنشات) على اعتبار أن اليوم عطلة.. وكان المترجم عجب خان، ووقف بجوار صالح إسلام مدير مالية الأحساء وأحمد لاري ممثل الحكومة لدى الشركة لمعرفته لهم.وكان الحفل والمناسبة بالغ الأهمية لأنه ا تسجل حدثاً تاريخياً يحدث لأول مرة في تاريخ المملكة، وهي تصدير أول كمية من بترولها.. وقالوا أنه لا بد من إلقاء كلمة أمام الملك تليق بالمناسبة، ولكن الشركة لم تعد لهذا، وفي الوقت الذي قدم مدير الشركة المستر أو ليجر المقص لجلالة الملك لقص الشريط، تقدم أحمد لاري من جلالة الملك مستئذناً أن تلقى كلمة مختصرة بين يديه فأذن بذلك، فتحدث الحسون مستلهماً روعة الحدث وبعده التاريخي ومستعرضاً أمجاد أمته ووطنه والمستقبل الذي يرنو إليه.
وشكره الملك وسأله من أنت ؟ ومن أي بلد ؟ فقال له خادمكم إبراهيم الحسّون من عنيزة فقال جلالته أنت (فيد) جدة الذي خطب عن ابن معمر ؟ قلت نعم.قال جلالته : بارك الله في عنيزة وأبناء عنيزة.
وأدار الملك الصمام إذاناً بانسياب البترول من الأنبوب إلى خزانات السفن المنتظرة على الشاطئ، وكان أول باخرتين تحملان أول شحنه بترول هما (سلفر ستار) أي النجم الفضي، والثانية اسم (سلفر كلاود) أي السحابة الفضية.
ثم تطرق إلى افتتاح مراكز جمركية في قرى الحدود الشمالية للمملكة (قرية ،حفر الباطن، أم رضمة، الدويد، لينة) وتعيينه مديراً لمركز أم رضمة، ثم استعرض أيام الحرب العالمية الثانية وأسبابها وتفاصيل سير المعارك بين الحلفاء والمحور، وموقف المملكة الحيادي، وافتتاح مكتب في الكويت لتوريد البضائع وبالذات المواد الغذائية، وإقامة مستودعات لها لتوزيعها على المواطنين مجاناً، وحديثه عن عمال الزكاة وتقديرهم للمواشي، وعن زواجه من (سلمى) التي اختارته على عدد من زعماء القبائل وعلى زملائه بسبب تنظيم وقته وذهابه وقت الفراغ للقراءة في إحدى المغارات ووفاة زوجته أثناء الوضع وتبعها بعد ساعات وليدها.تأثره ومرضه النفسي، وعلاجه بالكويت، تعيينه مفتشاً على جمارك الحدود الشمالية وصعوبة المواصلات والاتصالات وتعرضهم للكثير من الأعطال والمشاكل، سفره لأول مره للعراق ووصفه الدقيق للنجف وبغداد ودخول بريطانيا للعراق ودخول فرنسا لسوريا ومقاومة الأحرار بقيادة يوسف العظمة ومعركة ميسلون، ووصفه لمعركة فلسطين مع اليهود عام 1948، لقائه وزير المالية، سفره إلى جدة بعد مغادرته لها قبل ثلاث عشرة سنة، وركوبه الطائرة لأول مرة.وصف لقائه بشقيقه وتعرفه على أبنائه، سفره للقاهرة وصفه الدقيق للحياة الاجتماعية وأماكن السياحة والمتاحف والمساجد والمكتبات، عودته وعمله بجمرك جدة، إصابته بمرض السل وسفره إلى لبنان للعلاج بمستشفى بحنَّس ووصفه للمرضى السعوديين وغيرهم وبقائه لأكثر من سنة ونصف وحل موضوع الممرضة فاطمة محمد علي التي تسمت بـ (روز) حتى تقبل كممرضه بالمصحة واصابتها بمرض السل وصعوبة علاجها واقتراح زواجها من احد المرضى السعوديين عطيه الغامدي، والذهاب إلى القاضي ليعقد لهما بعد موافقة والديها والذي رفض إلا بعد إعطائه، 100ليره، ثم التوجه فوراً للسفارة السعودية ووجود السفير إبراهيم السويل بمفرده والذي أمهم في صلاة المغرب ثم أعطاهم جواز سفر باسم الزوجة على أنها سعودية بعد تصديق عقد الزواج وذهابهم في نفس الوقت إلى مكتب سليمان الغنيم مندوب المرضى السعوديين والمسؤول عن متابعة أحوالهم ليكتب للمستشفى لعلاجها على حساب المملكة، شفائهم وعودتهم للمملكة وبداية عملها كطبيبة في الباحة وعلاقتها الطيبة بالأهالي واستطاعت ان تبني عدد من المنازل الحديثة وزيارته لهم مع القاضي أحمد بن علي العمري الذي لم يصدق ما سمعه من الحسّون لو لم ير فاطمة وزوجهاالذي رافقه الحسّون إلى هناك.
وصفه للبنان وحواره مع القسيس، وزيارته لبعلبك، زيارة الأمير سعود ولي العهد للبنان ومتابعة حفلات الاستقبال وتبرعه للجمعيات الخيرية وتبنيه لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، تلقيه خبر وفاة الملك عبدالعزيز، ولقائه بالقصيمي واعجابه به ثم جمعه لمبلغ من المال كمساعدة له ولكنه أعادها لأصحابها بعد أن تناقش معه ولم يعجبه رأيه بالدين. عودته للمملكة، عمله بجمرك جدة ثم مفتشاً بجمرك طريف ثم مسؤولاً جمركياً ومديراً للمالية بالحدود الشمالية كاملة ومقره عرعر، وقصته مع التهريب والمهربين وتحقيقه معهم، ووصفه لعرعر، وقصص تفتيشه على مراكز جمارك الحدود (عرعر، العويقيلة، رفحاء، الجوف، طريف، القريات، شعيب أحامر) وقصته مع إغاثة بادية الشمال عندما نفقت ماشيتهم بسبب احتباس المطر عدة سنوات.وعن الحياة الاجتماعية في عرعر، وعن زيارته لعنيزة بعد غياب أربعين عاماً وترشيحه رئيساً لبلديتها ثم اعتذاره.
وأخيراً تقاعده عن العمل في رجب 1398هـ بعد خدمة تجاوزت 45 عاماً.وتفرغه للقراءة وفي عام 1407هـ قرر أن تكون إقامته بجدة حتى وفاته رحمه الله عام 1425هـ 2005م. قال عنه محمد بن سليمان القسومي وهو يترجم له في : (قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية) «.. انه يتمتع بثقافة واسعة، وذاكرة قوية، مما ساعده على حفظ التاريخ وتدوين الأحداث، ودقة الوصف سمة واضحة في أسلوبه السلس، الذي لا تكلف فيه «.
وقال إن خواطر ومذكرات الحسّون تستعرض نسبه وأسرته ووصفاً دقيقاً للبيئة التي نشأ فيها (مدينة عنيزة) واستعراضًا للتاريخ السياسي لمنطقة القصيم، ثم تتوجه ذكرياته وخواطره إلى سرد تفاصيل تنقلاته، والبيئات التي عاش فيها، ويعد ما دونه عن تلك البيئات وثيقة مهمة في تاريخ الجزيرة العربية.
- الرياض