تنامي الوعي لم يقتصر على الجماهير الشعبية وحسب، إنما الطبقة المهيمنة المستفيدة من النظام السائد، ولكن الأسياد (ملاكي العبيد) بعدما عجزوا عن صد الإعصار الجماهيري، استطاعوا تفهم أن التغيير ينمّي ثرواتهم في نهاية المطاف.
الفلاح الحر أكثر إنتاجية من العبد المملوك لأنه صاحب مصلحة في زيادة المحصول، حيث سيحصل على نسبة من ذلك المحصول ترتفع كلما ازدادت كمية الإنتاج، أما العبد المملوك ليس له من فائدة إلا ما يبقيه على قيد الحياة، لذلك فإن إنتاجية الفلاح الحر هي أعلى بكثير من العبد المملوك لأنه يعمل بجهد مضاعف دون رقيب لينمِّي الثروة.
الزيادة في الإنتاج هي السبب الرئيس في انتقال المجتمعات من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى لأنها لصالح الطرفين المتصارعين كليهما، فالسيد الذي احتفظ كل بأرضه ووثنه، واستخدم عبيده للإنتاج والغزو للاستيلاء على أراض جديدة، كما جرى في حرب طروادة الشهيرة الشبيهة بالحروب البسوسية قبل الإسلام، أنهى كل ذلك بالاتحاد مع الأسياد الآخرين، الذين وحّدوا الأرض وحطّموا الوثنية، ثم أنشأوا دولة مركزية ومؤسسات سلطوية تضمن استمرار امتيازاتهم.
الحركة الليبرالية التي قادت التحول من العبودية إلى الإقطاع، تضمنت نهوضاً فكرياً وفنياً وعقائدياً ينبذ النظام القديم ويدعو للتحديث (حداثة)، تماماً كما جرى في أوروبا إبّان الانتقال من الإقطاع إلى النظام الرأسمالي.
عملياً تحولت الحركة الليبرالية ذاتها إلى تسمية جديدة هي الحركة البرجوازية الثورية، فرواد عصر النهضة مثل فولتير ومونتسكيو وجون لوك وجان جاك روسو وغيرهم، يُشار إليهم في الأدبيات باسم ليبراليين تارة وثوريين نهضويين تارة أخرى.
بالرغم من أن الجماهير الشعبية هي التي تدفع دمها ثمناً من أجل التغيير، إلا أن المستفيد الأكبر منه هو الطبقة المهيمنة، التي تتبنى قسراً النهوض الفكري والفني والتنظيمي في البناء الفوقي للمجتمع في بداية التحولات، ثم عندما يستتب لها الأمر تعود للالتفاف عليه وقمعه ومحاولة إلغاء ما تم إنجازه.
بيد أن التحولات الاجتماعية، منذ بداية الحضارة (تسعة آلاف سنة قبل الميلاد) حتى عصرنا الحالي، جرت بمحرك أساسي هو الصراع الطبقي، أي بين المالكين والمنتجين داخل المجتمع الواحد، وكان الصراع بين الشعوب المختلفة لا يتعدى ضم أراضي الغير لهذه الدولة أو تلك من أجل توسيع رقعة النظام القائم نفسه، سواءً عن طريق جعل سكان تلك الأراضي مواطنين كاملي المواطنة أم جزئياً بدفع الجزية.
أما في المرحلة الاستعمارية الحالية فالصراع الأساسي يجري بين أقطاب عالمية على شكل أحلاف من جهة، وشعوب الأرض كافة من الجهة الأخرى، أي أن الرأسمال عولم المواجهة فتنحى الصراع الطبقي للمرتبة الثانية، وأصبحت هيمنة الأقطاب المتصارعة على العالم في الصدارة، كما أصبحت العولمة هي الحل المنظور للخروج من مآزق النظام الرأسمالي إلى نظام عالمي جديد، يكون فاتحة لإغلاق باب الاضطهاد بكل أنواعه.
العولمة بقدر ما تحمل في طياتها ذوباناً لخصوصيات المجتمعات المختلفة في الخضمِّ البشري العام، هي في الوقت ذاته تحقيق لمصالح الشعوب كافة.
حاول الحلف المناهض للتغيير تخويف الشعوب من العولمة بواسطة تشويه معناها وجعلها وبالاً على العملية الثورية العالمية (محور التغيير)، حيث أشاع أن العولمة هي لصالح الشركات عابرات القارّات بحيث إذا حصل إضراب في دولة ما، ستغلق الشركات الخط الإنتاجي في ذلك الموقع وتستعيض عنه بالإنتاج في المواقع الأخرى.
العولمة بهذا المعنى المشوه تتطلب هيمنة المافيات الرأسمالية على العالم كله وتثبيت نظام دولي جديد بشروطها هي، أي إبقاء الاستغلال والسوق الحرة ونهب خيرات البشر، وكذلك الهيمنة على الأسواق لتصريف السلع وإشعال الحروب لتصريف السلاح، أي إدخال الفيل في خرم إبرة.
أما القوى المساندة للتغيير - والتي تنمو تصاعدياً - ماضية في تغيير المعادلات الميدانية في الصراع (الشعوبي) - إذا صح التعبير - لتثبيت نظام دولي جديد بشروطها هي، والذي يتناسب مع سنن التطور التاريخية.
ميزة هذه المرحلة الانتقالية النوعية بامتياز تكمن في تراجع الصراع الطبقي وتقدم الصراع الشعوبي ليكون في الصدارة.
فلاسفة عصر النهضة وخصوصاً ماركس رأوا أن المحرك الأساس للصراع الاجتماعي هو التناقض بين الطابع الجمعي للإنتاج والملكية الخاصة أو الفردية، وهذا التناقض ما زال قائماً إذا كان الحديث يجري عن مجتمع واحد أو مصنع واحد أو مؤسسة إنتاجية واحدة، ولكن ما يحرك الصراع الشعوبي حالياً هو التناقض بين المافيا الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة من جهة، وشعوب الأرض قاطبة بما في ذلك شعوب الدول الصناعية من جهة أخرى.
عادل العلي - الرياض