منذ أن قرأت ما كتبه الدكتور حمزة قبلان المزيني قبل عشر سنوات عن المصطلح العلمي بعنوان: المشكل غير المشكل، وفي حينها وأنا أبحث عن آليات ضبط المصطلح على البنيات الاشتقاقية والتركيبية والدلالية، والأخيرة هي الأهم، ولي تجربة طرحتها في كتابي: نقل مصطلحات اللسانيات الاجتماعية، وتحديدا في الفصل الرابع، وكيف يمكن ضبط المتصور الواحد وفقا لمنهج علمي يجري بآليات الضبط المصطلحي التركيبي نفسه وآليات المكونات الدلالية. وأجدني بعد هذا كله غير متفق مع كثير من المصطلحات، ووصلتُ إلى أن المصطلح ذي المفهوم الواحد يعيش مشكلة مثل الكلمة-أي كلمة- ذات السياق الواحد.
ونطرح هنا شيئاً من تجربة كل من الخوارزمي، وحنين بن إسحاق، وابن البيطار التي تلخص وضع نقل المصطلح العلمي إلى العربية. تتجلّى محاولات الخوارزمي في كتابه (مفاتيح العلوم) عمليات ترجميّة لا تختلف عن العمليّات التي نعيشها في وقتنا الحاضر وهي: النقل والترجمة والتعريب. ونكتفي بذكر مصطلحي astronomiaو astrolabon، حيث يترجم الخوارزمي الأول بـ(علم النجوم)، ويعرّب الثاني بـ(اصطرلاب). ويقابل المصطلح اليوناني الأول في الإنجليزية اليوم مصطلح astronomy والثاني مصطلح astrolabe. ويذكر س. ت. أونيونز ( Onions (1966) أن المصطلح الأول يدل على «العلم الذي يبحث في النجوم» أما الثاني المصطلح الثاني فيدل على «الآلة المستعملة لأخذ الارتفاع الفلكي، والبت في معالجة المشاكل الفلكيّة». ويذكر الخوارزمي أن (أصطر) astro تعني: النجم، و(نوميا) nomia تعني: العلم. وأن (لابون) labon تعني: المرآة. وتفصيله في مكونات هذين المصطلحيْن ينم عن معرفته باللغة اليونانية من جهة، وبالعناصر الصرفيمية المكونة لهذين المصطلحيْن من جهة أخرى. ولكن، ما سبب ترجمة الأول وتعريب الثاني؟ أليس من الممكن أن نترجم المصطلح الثاني بـ(مرآة النجوم)؟ وإن كان ذلك صحيحاً فلماذا دفع الخوارزمي نفسه إلى تعريبه دون نقل عنصريْه اللذين لهما مقابلان في العربية؟
إن مثل هذه الظاهرة في ترجمة المصطلحات من اليونانية إلى العربية في منتصف القرن الرابع الهجري -والذي يُمثله الخوارزمي نفسه- ليؤكد على أن مسألة النقل هنا مرتبطة بنظرة الناقل نفسه، والمقابل (اصطرلاب) نفسه بات مستعملاً حتى يومنا هذا، رغم احتماليّة ترجمته إلى (مرآة النجوم) ليدل على الآلة التي تقيس النجوم ومواقعها في السماء، والدلالة هنا متأتيّة لوقوع صيغة (مرآة) على وزن (مِفعال) وهو أحد الأوزان التي أقرّها مجمع اللغة العربية للدلالة على الآلة، وصيغة المقابل (مرآة) ليست مستحدثة حيث تُعتبر من الصيغ المسموعة من أسماء الآلات التي وردت عن العرب. وتعريب الخوارزمي لهذا المصطلح لم ينطلق من مبرر أو مسوّغ يقع على عاتق الحاجة الماسّة التي يولّدها ضيق الزمن، أو عجز اللغة، أو صعوبة الدلالة...إلخ. كما أننا لا نستطيع أن نبرر سبب تعريب مصطلح دون تعريب المصطلح الآخر. وعليه فتحول أيّ لفظة astrolabe في لغة ما من مدلول عام إلى مدلول خاص بمجال علمي معين اُصطلح عليه من قِبل المختصّين بهذا المجال يدفع الجماعة المستورِدة لهذا المصطلح إلى النظر في أمرين: أولاً: نقل مفهومه الخاص به إلى اللفظة المسبوكة له، وثانياً: النظر في كيفيّة سبكه في لغته، وما قام به الخوارزمي يعكس الأمريْن معاً مع اختلافٍ في كيفيّة سبكه لهما في العربية.
وكانت مصطلحات الفلسفة والعلوم التي دخلت اللغة العربية في العصر العباسي في أغلبها نقلاً من اللغة السريانية التي بها تَرجم السريانيون كتب اليونان. والعمل الترجميّ في ذلك الوقت مرهون بالمترجم نفسه أو الناقل، فعلى سبيل المثال رأى الباحث ترجمة متّى بن يونس للمصطلحيْن السابقيْن وكيف أنه لم يُجدْ تمثيل المفهوم الذي أراده أرسطو للمصطلحيْن السابق ذكرهما نظراً لارتباطهما بالفن الأدبي المسرحي اليوناني، ومن ثم عدم وجود محتواهما الثقافي عند العرب. وحينما ننظر إلى أشهر المترجمين في ذلك الوقت سنرى أن من بينهم حنين بن إسحاق الذي نقل كتباً كثيرة من اليونانيّة. وفي هذا النقل عمل حنين بن إسحاق على الاستفادة من الوسائل التي تعين على سك المقابل العربي. فمثلاً: نقل مصطلح (amphiblestroeides chiton) بـ(الطبقة الشبكيّة) بعد أن ذكر تعريبها بـ(أمفيبليسطرويذيس خيطن)، وبراعة حنين في اللغة اليونانية هي التي دفعته إلى اختيار هذا المقابل لهذا المصطلح اليوناني الذي يتكون من الجزء الأول بمعنى: (حول)، والجزء الثاني بمعنى: (أداة للربط كالحبل)، ويصبح هذان العنصران بمعنى: (شبكة تلقى للصيد). والعنصر الأخير تعد لاحقة بمعنى: (مثل)، أو (شبيه)، أما كلمة فمعناها: (غطاء) أو (طبقة). وعلى هذه المكونات تكون ترجمة هذا المصطلح بـ(طبقة شبيهة بالشبكة) غير أن حنين استخدم صيغة ال نسب لتصير (الطبقة الشبكية). ونقْل المفهوم في هذا المصطلح مرتبط بفهم عناصره المكونة له من ناحية، وبإدراك المجال العلمي المستخدم فيه من ناحية أخرى. وفي تجربة ابن البيطار لترجمة مصطلحات الأدوية والأغذية نلحظ أنه يعّرب المصطلح أولاً ثم يذكر معناه في العربية، قاصداً من ذلك الترجمةَ التي تقتضي وضع مقابل عربي واحد. وقد كان ابن البيطار متقناً للغة المترجم منها إلى درجة أنه قد أحسن نقل بعض السوابق واللواحق مثل: مرسنويداس ومعناه (الشبيه بالرأس)، وقولوغونداس ومعناه (الشبيه بالعصا)، وبولودنون ومعناه (كثير الأرجل)، وبولوطويخون ومعناه (كثير الشعر).
إذن، نصل إلى أن سيرة المترجمين: الخوارزمي، وحنين ابن إسحاق، وابن البيطار هي سيرة أي مترجم عربي في نقل المصطلح العلمي وترجمة النصوص، وتقريب المصطلح العربي الهدف إلى مفهوم المصطلح العلمي الأجنبي المحدّد والدقيق في تصوره يبقى مثل تقريب أي كلمة عربية لكلمة أجنبية محدودة السياق والموقف والمقام النصيّ، وكل تقريب بلا محالة سيكون أدق من أي تقريب، وعليه يبقى المشكل غير المشكل.
- الرياض