لم تكن الزيارة الأُولَى إلى دولة (الكويت)، لكنها كانت مشاركتي الأُولى في (مهرجان القرين)، في موسمه الحادي والعشرين، خلال الفترة من الاثنين 12 يناير 2015 إلى الخميس 15 يناير 2015.. وذلك بدعوة من (المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون والآداب).
حينما كنتُ أُجري ترتيبات السفر في مطار (الرِّياض)، سألني الموظَّف الموكَل إليه إنهاء أوراق المسافرين وتقديم بطاقات صعود الطائرة عمّا إذا كان مرافقي اسمه (خالد)؟ قلت: لا! ولم أُدرك مَن خالد المقصود؟ لم أُدرك ما وراء ذلك السؤال إلّا حين الصعود إلى الطائرة، ومجيء (الأستاذ خالد اليوسف) ليجلس إلى جواري. كنتُ أعرفه إعلاميًّا، ولم ألتق به من قبل. بادرته بالسلام، لأتأكَّد من أنه هو الجالس إلى جواري، وإنْ كان قد تأكّد لي ذلك بتذكّر سؤال الموظّف.. وقد كانت نِعم الرفقة خلال أيام الكويت.
لمّا وصلنا إلى مطار الكويت بعد مغرب يوم الاثنين، كان الجوّ باردًا جدًّا.. ومن زار الكويت في أيّام الصيف، لا يصدّق أن أجواءها يمكن أن تكون بتلك البرودة في فصلٍ آخر. بادرني أحدهم بالسؤال: هل أنا هو؟ قلتُ: نعم! قال: لكن الصورة مختلفة، وكان يريني في هاتفه الجوال صورة لي بالزيّ الأجنبي التُقطت خلال أمسية شِعريَّة كانت في كليّة دار العلوم في (القاهرة) قبل أكثر من عشر سنوات. قلت: كأنني أنا، لكن الزمان اختلف، والزيّ كذلك!
أخذَنا لإنهاء تختيم الجوازات. أحدُنا كان قد جدَّد جوازه، والآخر قيل إن هناك خطأ ما في البيانات. لم تَطُل هذه العمليَّة، لكنها أثارت الأسئلة: إلى متى يا دول الخليج العربي؟ ألم نسمع مرارًا أن التنقُّل بين دول الخليج سيكون ببطاقات الهويّة الوطنيّة فقط؟ كلّا، ما زالت الجوازات بين بلدان الخليج، وختم الخروج والدخول ثم الخروج والدخول، والصفوف الطويلة، إلى ما شاء الله.. فأين «خليجنا واحد، وشعبنا واحد.. الله أكبر»؟!.. وتذكّرت الحوار الذي دار بين السعودي والكويتي خلال حرب تحرير الكويت في روايتي «طائر الثَّبَغْطِر»، (بيروت: الدار العربيَّة للعلوم، 2014):
«رُبَّ ضارَّة نافعة - قال صديقي الكويتي الذي تعرَّفتُ به في إحدى المكتبات، وكان قد استأجر شقَّةً قريبةً من شقَّتي - ولأوَّل مرَّة تَعزَّز الإحساس بأن «خليجنا واحد.. وشعبنا واحد.. يعيييش.. يعيييش...»، واقعيًّا!
- وهل كان لا بُدَّ من صدَّامٍ ليتَّحِد الشعبان والدَّولتان، ولو مؤقَّتًا؟! ما ضَرَّهما لو اتَّحدا، وإلى الأَبَد؟!
- لا.. لا، الكويت كويت، والسعوديَّة سعوديَّة، والبحرين بحرين، وقَطَر قَطَر، والإمارات إمارات، وعُمان عُمان، وال.. وال.. وال...
- دُوَلٌ... مستقلَّة هذه، وعلى مرِّ التاريخ، فكيف تتَّحِد؟! (قلتُ ساخرًا). لكن لعلَّ [دولة أخرى] تُوَحِّدها تحت جناحها يومًا ما، مبتلِعةً إيَّاها حَبَّةً تِلْوَ أخرى!
- فال الله ولا فالك! يا أخي بين دول الخليج فوارق جذريَّة، مذهبيَّة، وعِرقيَّة، ولغويَّة، وحتى جغرافيَّة، أَنَّى لها التلاشي؟! وكيف تريد أن تَقبل أيّ واحدةٍ من هذه الدُّوَل العُظمَى المستقلَّة على مرِّ التاريخ أن تُضَحِّي بمميِّزاتها النوعيَّة، أو تُفَرِّط في سيادتها الفرديَّة، ونظامها الفريد... فيما لو قامت وحدة اندماجيَّة، أو «كونفدراليَّة»، أو حتى اقتصاديَّة، لا سمح الله؟! كلَّا، ذلك ما لا يُتصوَّر، فإن قبائل العرب لا تتَّحد مطلقًا إلَّا في الكلام، ولو قامت الساعة!
- ولو قامت الساعة؟!
- «عَيَلْ شِنُو؟» كلّ قبيلة ستُحشَر وحدها! [وهو يضحك].. الاتِّحاد غير وارد، «يُبَه»... وأنا شخصيًّا ليس بودِّي أن أصير غير كويتي، وإلى أبد الآبدين!
- إلى أبد الآبدين؟! وما الحلّ؟...».
تواردت الخواطر.. ولكن الله سلّم! فما أن تصل إلى الكويت حتى تشعر بأنك في بلدك تمامًا. كرم الضيافة، وأصالة الإنسان.
في اليوم التالي (الثلاثاء 13/ 1) كان جدول المهرجان حافلًا، ولا سيما في المساء.. وقد فوجئنا، زميلي وأنا، ونحن نحضر أمسية أدبيَّة حول «الإبداع الشبابي الكويتي.. المسارات والإنجازات (القِصَّة والرواية نموذجًا)»، في (رابطة أدباء الكويت)، أننا مكلَّفان بإدارة ندوتَين من ندوات ذلك المساء، وكنّا آخر من يعلم، على الرغم من أن اسمينا في البرنامج الثقافي الذي لم نُطلع عليه! لم نكن قد أُخطرنا بطبيعة المشاركة، ولا بمثل هذا التكليف. في دقائق كان لا بُدّ أن نتعرّف على فرسان تلك الندوات وسِيَرهم الذاتيَّة، قبل اعتلاء المنصَّة. أدرتُ الندوة الثانية «قراءة في إبداعات قصصيَّة شبابيَّة»، وقدّم فيها (الأستاذ فهد توفيق الهندال)، من الكويت، و(د. عبد السميع مصطفى الأحمد)، من (سوريا)، ورقتَي بحث مهمتين.. وأدار الزميل خالد الندوة الرابعة «أنا وتجربة منتدى المبدعين الجدد»، وشارك فيها (الأستاذ وليد المسلم) و(الأستاذ سالم الرميضي)، من الكويت.. ومع ثراء الطرح، وغِنَى النقاش - البالغ تارات حوافَّ الاشتباك المسلّح بالخلاف - فقد كان المثير غياب الشباب عن تلك الأمسية الخاصّة بإبداعهم.. ما يؤكّد ما قلته في مناسبة سابقة - وكان اعتذارًا عن الشباب بين يدَي عتاب شديد (للأستاذة ليلى العثمان) لغياب الشباب: أن الإعلام الثقافي الآن هو المسؤول عن تجسير الهوة بين الشباب والمحافل الثقافيّة؛ فلقد اختلفت وسائط التلقِّي اليوم؛ فلا ننتظر من الشباب حضور الفعاليّات، كما كان في الماضي. هذا بالإضافة إلى تزامن الأنشطة في البلد الواحد، بل في المهرجان نفسه، والمنشأة الثقافية نفسها.. وهو ما يستدعي من القائمين على الثقافة التنظيمَ، والتفريقَ بين الفعاليّات الثقافيّة في الأمكنة والأزمنة.
في اليوم التالي كنتُ موعودًا عند السادسة مساءً بمحاضرة حول «أثر الأدب العربي في الآداب الأوربيّة»، (للأستاذ مهنا المهنا)، في مكتبة الكويت الوطنيَّة.. لكن المؤسف أننا حين ذهبنا إلى المحاضرة وجدناها قد أُجِّلت، لتقديم حفلٍ تكريمي. ما العمل؟ بعد ساعة كانت هناك أمسية شِعريّة في المكان نفسه، وبعد ساعة حفل فرقة الفلامنكو الكويتي، وعند الثامنة فيلم جزائري بعنوان «مسخرة». هل ننتظر، هكذا في البرد؟ أم نذهب إلى الفلامنكو والمسخرة؟ بصراحة قررنا الذهاب إلى الفلامنكو والمسخرة! وصلنا إلى (مركز الأمريكاني الثقافي)، فإذا عالم من جحافل الشباب من الجنسين ينتظرون فتح الأبواب، وكأننا إزاء مظاهرة حاشدة. حقًّا، هذا الحضور الشبابي وإلّا فلا؟ السؤال إذن: كيف يمكن أن نجعل الثقافة الجادّة تستقطب الشباب كالفلامنكو؟! بصراحة كان وجودنا هناك يبدو غلطًا، ولا محلّ له من الإعراب! احتالت علينا إحداهن قائلة: إن هناك قاعة للاستراحة في آخر الممرّ، حتى لا تقفا مع الواقفين! صدّقنا، فذهبنا، ولم نجد القاعة، لكننا وجدنا أنفسنا عند فتح الأبواب قد صرنا في آخر الداخلين. لم نجد مكانًا للجلوس في المسرح، ولم يشفع لنا للجلوس في الكراسي الأماميّة، المحجوزة للضيوف، القول إننا كنا نظن أنفسنا في طليعة الضيوف. ذهبنا، واستدرنا، ثم صعدنا، حتى وجدنا أنفسنا وراء صَفَّين في الشرفة العُليا، أمامنا مباشرة عمود يحجبنا عن مشاهد أيّ شيء. أكل هذا العناء لنشاهد هذا الجدار؟! الشعب العربي شعب طروب، لا يفوقه شعب آخر في اللهو واللعب، أما في الجدّ، فلا أحد. على كل حال سرعان ما انسحبنا بصعوبة بين الحشود، مغادرين.. وقد وجدنا الناس ما زالوا يتدفَّقون من كل حدب وصوب إلى مركز الأمريكاني الثقافي. ذهبنا إلى «المسخرة»، في (سينما ليلى غاليري). فيلم جيّد، ولم يكن مسخرة، على الرغم من الافتعال والمبالغة اللذين ظهرا لي في إيقاع الأحداث، على نحوٍ صاخبٍ وغير طبيعي. كانت عُقدة الصفوف الأولى قد استبدّت بنا، فجلسنا في الصفّ الأوّل والناس في الصفوف الخلفيّة. عَمِيَتْ أبصارُنا، وآلمتنا الرِّقاب أمام الشاشة المرتفعة، لكن لا بُدّ مما ليس منه بُدّ!
بقي القول: لقد عُدت من تلك الرحلة الثقافية الجميلة بما لا يقدّر بثمن من الصداقات والكتب. من أهمها كتابان قيّمان (للأستاذ حمد عبد المحسن الحمد)، هما: رواية بعنوان «اختطاف.. ثانيًا»، (2014)، و»حديث الديوانية: من دوواين ومجالس الكويت والخليج - سيرة مجتمعيَّة»، 2012.. وكذلك كتاب «الورد لك.. الشوك لي»، (للأستاذ سليمان الشطي)، و»حُبٌّ في المريخ»، رواية، للأستاذ عبد اللطيف خضر الخضر، 2015، و»المعارضة السياسية في الإسلام»، للباحث محمد حمود البغيلي، 2014م.
شكرًا للكويت، الثقافة والعروبة والكرم، وكلّ (قرين) وأنتم بخير!
- الرياض
p.alfaify@gmail.com***http://khayma.com/faify