العقيدة التي تستعمر العقل هي «وثنية»، ومتى ما تحولت العقيدة إلى وثنية فقدت عقلانيتها وتحولت إلى قوة وحشية وهمجية، لأن علاقة الفرد داخل تلك العقيدة الوثنية عن خارجها تتجاوز وجوبيات التعايش المشترك إلى علاقة صراع مع الآخر، موت مقابل حياة أو وجود مقابل إلغاء وفي نفي مخصوص لعلاقة التماثل والتبادل والتوازن.
ولعل المبدأ السابق قد يجد من يعترض عليه باعتبار أن العقيدة الصادقة هي بطبعها تُوجب التوافق العقليّ مع معتنقها لا تستعمر عقله وتُنتج قوة الإرادة لا التعصب والوحشية والهمجية.
وثمة شبه خلط بين دلالات التصديق والبرهانية هنا حسبما أعتقد، ولنبدأ من جوهر المسألة، أي قيمة العقيدة ووظيفتها، أو ما تقدمه العقيدة لمعتنِقها.
كل إنسان يحتاج إلى عقيدة وليست كل عقيدة يستلزمها معتنِق، ولذلك فهناك عقائد مهجورة وأخرى على قيد التداول.
وتلك القاعدة تُرسخ ثلاثة أمور هي: أولها، العقائد لا تدخل ضمن «حسابات المواريث» إلا ما يضمنه لها قيد التداولية والاقتضائية، لأن وجودها مرتبط بحركة ذلك القيد وحيويته، وهذه الثيمة هي التي تُدخل العقائد دائرة صراع القوى والبقاء، وتتنوع صور ذلك الصراع لكن ما يظل ثابت أن الجوكر الرابح والذي تسعى العقائد لجذبه هو «الفرد»، لأنه البرهان الذي يحرك الاقتضائية ويُسيّر عوامل التداولية، وهما روح الدورة الحياتية لأي عقيدة، إنها عملية تنازع على أصل إمكانية الصيرورة وأحقيتها.
وثانيها، أن التوجه نحو عقيدة يستند إلى الاختيار، ولذلك فانتماؤنا لعقيدة هو انتماء قصدي مبني على التخيير لا التسيير.
والاختيار هنا هو عقد اشتراطي بين العقيدة ومعتنقِها يقوم على قدرة العقيدة على توفير ما يحتاجه الفرد من مقاصد وغايات تحقق وجوده بالقوة.
والاحتياجات غالباً موزعة بين العقائد بدرجات متفاوتة على مستوى التنوع وإلزامية الاستحقاق وتوافقية التطور والاستشراف والتنبؤ وضمانات التقدير.
وثالثها، أن الاحتياج الذي يسعى إلى توفيره الإنسان من خلال اختياره للعقيدة يعتلي ناصيته تحديد «قيمة لذاته».
فنحن نختار العقيدة التي تُعيننا على الإحساس بتقدير ذواتنا أو اكتشاف ذلك التقدير أو صناعته، وتلك المراتب هي التي تحدد مستوى صيرورة العقيدة من عدمها.
في المقابل من السهل على الفرد أن يتخلى عن عقيدة لا تحقق له كفاية سوية لتقدير ذاته من خلال تلك المراتب أو تُرسخ إحساسه بالاستغراق في الدونية وحديّة الهامش وتفريغه من طاقته الحيوية التي يسترشد بها في تقديره لذاته.
ولذا، فالذوات الهائمة بين حواجز النور والظلمة والمطحونة بعجلات الدونية هم الأقرب إلى التحوّل إلى عُبّاد وثنية العقيدة وإلى هُبلِيين جدد.
إن درجة انتمائنا لأي عقيدة مرتبطة بمقدار ما توفره لنا من تقدير سويّ للذات من خلال معدّل معقول من ممارسة القوة مما يتوافق مع الميل الطبيعي للإنسان كونه مُكرماً بالعقل والإبداع والفاعلية وصناعة الحضارة وتلك الإيجابيات لا تتم إلا في ضوء مستوى منطقي من تقدير الذات يُشبع كفاية ذلك الميل أو يوفر له الحدّ اللازم لكفاية الاحترام الخاص وفاعليته.
ومتى ما تخلت العقيدة عن تحقيق كفاية ذلك الميل بالإشباع أو المقياس اللازم للفاعلية تمرد عليها الفرد بالتعويض لعقيدة تحقق له ميله سواء من خلال الإشباع بالسويّة أو بشاذ حدّية تقدير الذات وتطرف أعلويته.
إن الميل الفطري للفرد نحو تقدير الذات قد تستغله بعض العقائد لجذب فواعل من خلال «وهمية تقدير الذات وتزييفه»، لتكثيّف اقتضائيتها وتفعيل تداوليتها.
إن هذه المرحلة هي مرحلة اختيار الفرد لعقيدته التعويضة، والاختيار هنا يتجاوز البحث عن التحقق في ضوء تساوي العقائد المختارة في الالتزام به إلى درجة التحقق وهو ما تتفاوت فيه العقائد وبالتالي يُصبح معيار مفاضلة.
وكلما رفعت العقيدة درجة تقدير ذات فاعلها - مصدر المفاضلة - تطرف الفاعل في اعتناقها.
وذلك التطرف هو الذي يحوّل العقيدة إلى «فكرة وثنية» تُغيّب عن فاعلها عيوب تلك العقيدة.
لا شك أن كل عقيدة مُلزمة أن تحقق لمعتنِقها مستوى معقولاً من تقدير الذات، والمعقولية هنا ضابط التوازن المحقق للسوية والحامي من جنون العظمة أو الاستغراق في الدونية.
لكن غياب تلك المعقولية هي التي تصنع إشكالية «الهُبلِيّة الجديدة».
فاضطراب تلك المعقولية هي غالباً من يُؤسس لعقيدة جنون العظمة، سواء الاضطراب بالتعالي الشاذ أو الأدنوي الشاذ، وهو اضطراب مقصود مبني على فكرة منطقية مبدأها يعتمد على أنه «لا يمكن أن نحقق تقديراً لذات إلا من خلال قوة الفعل»، وهنا يتساوى مفهوم القوة ونوعها بالدمج، فالإبداع والابتكار والعنف كلها مصدر قوة بالفعل.
مع ملاحظة أن التعالي الشاذ «جنون العظمة» غالباً ما يحصل نتيجة الأدنوي الشاذ «الاستغراق في الدونية».
...... وبذلك يُمكن القول بأن عقدة «جنون العظمة» أو الإسراف في إشباع كفاية ذلك الميل هو تحوّل عقيدة الإحساس بالدونية إلى إحساس مضاد له «جنون العظمة»، باعتبار ما ذكرته سابقاً أن الميل الإنساني يتجه إلى «تقدير الذات» وتغيير ذلك الميل بالدفع إلى الاستغراق في الدونية لا يطمس ذلك الميل أو يُلغيه إنما يكبته وكلما طال زمن الكبت لا يحول ذلك الاستغراق إلى أصل، إنما يحدّه فيما بعد أثناء عودته إلى الأصل.
إن أمر الحدّية ها هنا أشبه بتوازن القوى بين شدة الفعل وشدة ردته التي تتحكم في أنطولوجيا العلاقة، باعتبار تحديد مقدار من قوة الأثر يرتبط بمقدار قوة الدفع أو «إن مقدار القوة يحدد ماهية المقدار الآخر من القوة».
لا شك أن ثمة أسباباً هي التي تدفع الذوات إلى ظلمة الاستغراق في الدونية، وهناك أسباب تتعلق بالفرد وأسباب تتعلق بالجماعة أو المجتمع.
إن هامشية الفرد التي تُغيّب تقديره لذاته أو تقدير الآخرين لذاته تتصدر تلك الأسباب وتتعدد الأسباب التي تدفع الفرد إلى الهامشية ومنها الفقر والجهل والاضطهاد والتمييز والعنصرية وتصفير التقدير وإهمال أوعية قوته.
وعلى المستوى الجمعي هناك الهزائم السياسية والرجعية الاجتماعية واختراق الخطاب الديني بالتأويلات الفاسدة وضعف الخطاب الثقافي.
ومن هنا يبدأ الفرد في البحث عن عقيدة تحقق له تقديراً خاصاً لذاته، والبحث يعني استعداد الفرد مع سبق الإصرار والترصد للتنازل عن عقيدته الأولى مقابل استرداد تقديره لذاته أو صناعة تقدير لذاته، ويصبح حينها النور كما النار كليهما مصدر للتخلص من العتمة ولو كان ثمن الضوء هو الاحتراق.
كما يعني البحث ها هنا أن التصديق الموجه من قِبل الفرد للعقيدة الجديدة مرتبط بميثاق مصلحة بينهما، يقوم على وجوب توفير تقدير للذات يحمل طابعاً أعلوياً مختلفاً عن تاريخ الفرد، وبشروطه الخاصة لأنه هو من يملك اختيار العقيدة التعويضية.
ولا يشترط لذلك التوفير الشكل التقليدي لتقدير الذات، أي الحياة إنما يُصبح الموت أيقونة لتقدير الذات لأنه خط موازٍ للحياة في تعاليم الذات المتحوّلة من عقيدة «الاستغراق في الدونية» إلى «عقيدة وثنية جنون العظمة».
لنجد أنفسنا أمام «هُبلِيّة جديدة» تستوثن قصديتها لتملك قوة اقتضائية وتداولية من خلال أرواح تائهة بين حواجز النور والظلمة تُضحّي بكل شيء من أجل الإحساس بحرية تقدير ذاتها، ولو كانت تلك الحرية فاسدة.
- جدة