لم أكن أتصور يوماً ما أني قد أكتب - فضلاً عن أن أؤلف - كتباً. ولقد كنت أعاني - وما زلت - مشكلات في مخارج الحروف. ثم إني كنت ضائعاً وسط عائلة كبيرة، يستحيل في فضائها أن أتحدث مع نفسي أو خلق خيالاتي، وحيث كانت الإجابات دائماً أكثر وفرة من الأسئلة. ثم إني كنت في حصانة من الكتب التي تفسد حياة وعقول الناس؛ لأنها كانت ببساطة ترفاً على طفل قروي مثلي.. غير أن الفقر الذي منع عني كل شيء لم يستطع أن يحجب عني أفق الحلم، هذا الحلم الذي ظل نافذتي التي أرسمها على جدار الحياة الصلب، ثم أفتحها وأطل منها على حدود العالم الواسع.. بل أعيد رسمها وفتحها كلما احتجت.
وسأتذكر أنه عدا ما كنت أكتبه في المدرسة فقد احترفت مهنة كتابة الرسائل للغائبين والبعيدين الذين غادروا القرية للمدن البعيدة. كنت أكتب للأمهات والزوجات رسائل الفقد والعتاب والرجاء، وللرجال منهم كنت أكتب رسائل الحنين المسكونة بالوجع والكبرياء المعاند. كنت أتهجى لهم كل شيء بصبر على أضواء الفوانيس وبين الفراش المحترق، ومعهم ومنهم كنت أتشرب الوجع، ولم أعرف أني أنا يوماً سأكون أحد الذين يمتهنون الأوجاع، وأن الإنسان قد يموت في الأربعين بسبب رصاصة أُطلقت عليه في العشرين من العمر كما يقول كامو.
وربما أُطلقت عليّ الرصاصة قبل العشرين بسنوات كثيرة.. بل ربما أُطلقت علي مرات ومرات.
غير أن من يريد أن يقرأ سيجد ما يقرؤه.. وكنت أقرأ كل ما أجد.. كتباً مدرسية.. كتباً حديثة.. جرائد ممزقة وبالية، وحتى مناهج مدرسية لمراحل لم أكن فيها.. وتوسع العالم قليلاً، وبدأت أقرأ ما كان يسمى قصصاً وروايات ودواوين شعر، وحسب ما يتوافر. وحدث ما كان يجب أن يحدث لمن يحلم كثيراً ويقرأ كثيراً.. فقد بدأتُ أكتب.
بدأت كتابة أبيات شعرية مضطربة، ورسائل لا مستقبل لها، بل حاولت أن أرسم.
ثم ذهبت أبعد؛ فقد بدأت بإرسال مشاركات متواضعة للمجلات في ذلك الزمن.. وظهر اسمي مطبوعاً يذيل قصائد غارقة في الشجن.. كان القلب قد تلقى وجعه الأول.. ومن أجل ذلك كنت أكتب. لكن البحر والبدلة العسكرية ابتلعاني ثلاثين عاماً.
وعندما عدت كانت جذوة الروح قد انطفأت أو كادت.. كانت أشبه بلحظة راكضة بين عشقين.. عشق ينازع الخلود ويتقوى بالذكرى، وعشق يولد طازجاً.. لكن الجديد دائماً ينتصر.. وانتصرت الشهية للكتابة.
ولن أدعي أني كنت صامتاً كل تلك الفترة.. كنت أتمرد وأكتب.. مرة أحتمي باسم نصف مستعار (ولهذا قصة)، ومرة بحسن النيات التي حمتني دائماً، ولكني - وهذا هو الأهم - كنت أقرأ.. قرأت كثيراً حيث لا يقرأ كل الناس.. قرأت كثيراً على بساط الماء.. قرأت ما أحب لا ما يمجده الناس، وأبقيت داخلي ذلك الطفل الذي يرى الملك عارياً ويصرخ به ولا يهتم.
كتبت قصصاً قصيرة.. ومقالات متفرقة، وأصدرت مجموعتي القصصية الأولى (طائر الليل)، ثم مجموعتي الأخرى (رغبات مؤجلة)، وأبقيت ما هو جاهز، ولم أدفع به للطبع؛ لأنه لن يضيف شيئاً لهذا العالم، وأتلفت ما هو أكثر، وكثير منه ضاع، أو ربما تعمدت ضياعه.
وفي البحر أيضاً تحدثت كثيراً مع نفسي.. نفسي التي لم أكن أجدها من قبل، وأعدت خلق أوهامي.. ومهم جداً أن يمتلك الإنسان أوهاماً يتغذى بها، وإلا فإن الحقيقة موحشة جداً، وعراء الجنس البشري فظيع.
وعدت أكتب.. وكتبت وبدون أي اشتراطات مسبقة سيرتي الذاتية التي أسميتها (ليس للأدميرال من يكاتبه).. كتبتها للقارئ العادي الذي وصفته فرجينا وولف بأنه «القارئ الذي لم يفسده التحيز الأدبي المكتسب بالمهارات الرفيعة والتعصب العلمي.. القارئ الذي لا يزال يجد في القراءة متعة قبل أن تكون سبيلاً للمعرفة أو مجالاً لتصحيح الآخرين».
وأعتقد ودون غرور أنها وصلت للناس؛ لأني انحزت فيها للصدق والناس، وانحزت أيضاً للغة، وأنا من أولئك الذين يمجدون اللغة في المنشأ الكتابي، وأرى أن اللغة أشبه بتلك «اللزمات» في الأغاني التي تجعل الجمهور يترك عند سماعها المقاعد، ويهتف «الله، الله، الله».
ومرة أخرى يتلقى القلب رصاصة أخرى نسميها في المصطلح العسكري نيراناً صديقة، وكانت هذه النيران قاسية بلذة لن تتكرر، وعدت أكتب نصوصاً متفرقة.. جمعتُ القليل منها وأسميته «مزاد على الذكرى»، وتركت أكثرها لذكرى لن تسترد.. وأخيراً كتبت رواياتي (تذاكر العودة)، الرواية التي لو لم أكتبها لتسممت.. لقد كانت أشبه بورم في تلافيف الروح.. كانت حصاد عمر مما اختزلت داخلي.. ورغم هذا أعترف بأني لست راضياً عنها، وأنها كانت يمكن أن تكون أجمل، ولكن مشكلتي دائماً هي النهايات.. قلتها، والآن أكررها.. غير أني كتبتُها واسترحت.
وأحاول الآن كتابة أخرى وأخرى إن استطعت. ولأني مدين بالكثير من الذاكرة للأساطير.. هذه الأساطير التي صنعت ذاكرتنا، وساعدتنا على تفسير العالم.. ولأني احتميت بها كثيراً في زمن ما، ولأنها شفاهية، تموت وتُنسى، فقد جمعت بعضها كعربون وفاء، ثم أصدرتها في مجموعة قصصية، أسميتها (من أساطير القرى).
وليس هذا كل شيء فهناك الكثير مما أود كتابته وما عاد لي من منجز غير الكتابة ثم إنه «ومرة أخرى لن أتواضع كاذبا وسأقول إني كغيري من الكتاب أو على الأقل مدعي الكتابة: سأقول إن كلا فينا يرى في نفسه مبلغا لرسالة ما وإلا لاحتفظ بوساوسه لنفسه.. ولما جعل هذا الكم الهائل من الكتب يتثاءب في المكتبات.
ثم إن الحكايات تمنحنا عمرا جديدا..وشهرزاد كانت تخترع الحكايات لتكسب يوما إضافيا في الحياة والعالم لم يتغير كثيرا من ذلك الوقت وكل راو إنما هو فرد يحاول كسب مساحة إضافية من الحياة.
يلخص جورج أوريل أسباب الكتابة في أسباب أربعة:
1- الرغبة الصرفة في أن تبدو ذكيا وأن يتم الحديث عنك او أن تذكر بعد الموت او أن تنتقم من الكبار الذين وبخوك في طفولتك.
2- الحس الجمالي او إدراك الجمال في العالم الخارجي او ترتيبه عبر الكلمات
3- الحافز التاريخي المتمثل بالرغبة في رؤية الأشياء كما هي وحفظها للأجيال القادمة
4- ثم الهدف السياسي وكلمة سياسي هنا تعنى معنى الرغبة في دفع العالم في اتجاه معين من خلال تغير أفكار الأخرين.
وقد لا نكتب من أجل الأسباب الأربعة مجتمعة وربما من أجل سبب أو سببين لكن السبب الأول سبب الرغبة في أن نبدو مختلفين هو ثابت ولن نراوغ عنه.
لكن كل الكتاب ليسوا أكثر من عميان يصفون الجزء الذي لمسوه من الفيل ..كما في قصة العميان الشهيرة وإذا ما افترضنا مثلا أن مدينة الرياض هي الفيل فإن سعد الدوسري وصف منها ما لمسه في روايته «الرياض نوفمبر90» ووصف منها عبدالله بخيت ما ظنه الفيل في روايته «شارع العطايف» وكذلك بدرية البشر «في غراميات شارع الأعشى» وأميمة الخميس في «زيارة سجى» وحتى رجاء الصانع في «بنات الرياض» وغيرهم.. ولكن هل أحاط هؤلاء بمدينة الرياض ؟ هل وصفوا الفيل أم تخيلوه ؟ لكنهم وفي كل الحوال وبحس إنساني مطلق حاولوا تطمين فضول العالم عبر رؤاهم الخاصة أو إشعال فضوله أحيانا أما النجاح والفشل.. الرفض والقبول فتلك قصة أخرى في زمن غدى الفنان هو المكلف بالوعظ في عالم ما عاد يؤمن بالحقيقة كما يقول كامو والذي يقول أيضا يفترض في الأنسان أن لا يكون سعيدا ولكن واعيا.. والوعي بالحياة ورغم الغصة التي تفعل بنا هو ما نحتاج.
صديقتي وكاتبتي المفضلة وأحد أجمل نساء الأرض «إزابيل اللندي» ترى انه من أجل كتابة أي رواية فأن أهم ما نحتاجه هو الحب والشغف.. وأن بقية الأبطال من الأخيار والأشرار والقتلة والخارجين على القانون والأصوات والروائح وغيرهم يمكن تعويضهم أو حتى إسقاطهم .. لكن لا أحد يعوض الشغف والحب.» طبعا هي لم تقل ذلك بهذه المفردات ولكن قريبا منها . ولأن الأشياء تتلف عندما لا تستعمل حتى مفردات الحب فإنه لزاما علينا أن نحاول ان نخترع المبررات لأستعملها حتى عبر أوهام الكتابة إن لم تكن في الحياة.
وإذا كانت إزابيل ترى ضرورة الحب لكل شيء فأنا أيضا ارى أن الحزن ضرورة أخرى هذا الحزن الذي ولد معي وكبر والذي قاومت كل محاولة للتخفيف منه وهو الوحيد الذي لن يخذلني أبدا ولن يطمع فيه أحد.
وأخيرا لا أعرف إن كنت استطعت توصيف تجربتي الكتابية المتواضعة أم أني غردت خارج السرب.
وسأعترف وكأشقى الأطفال أني حاولت التغريد خارج السرب ليس لأني خارج على روح الجماعة ولكن لأن جناحاي قصيرتان وعاجزتان عن التموسق مع أحد ولذلك أفضل التحليق وحيدا حتى وإن لاحقتني البنادق.
وربما لأن المساحة التي وضعت يدي عليها من الفيل الذي حدثتكم عنه صغيرة جدا..صغيرة حتى عن الكتابة عنها.
وفي نهاية المطاف فأن مكافآت الحياة لا توزع بعدل إنها كهبات الحظ والجمال والحب وعطايا الروح.. البعض يغرقه طوفانها وآخرون تقتلهم تشققات الحياة.
عمرو العامري - جدة