ضجرنا من ذلك المعلم الذي بدأ بسؤال عن طباع الأرنب لينال الجميع عصواته الحارة.
خففت الرحلة التي يعتزم معلمو وطلاب المدرسة القيام بها من الجفاف الذي كنا بالفعل نعانيه من أساليب المعلمين، انتظم الطلاب على شكل طابور يتقدمه المعلمون في اتجاه الغابة مررنا بوادي قوب وعبثنا بأقدامنا في مياهه الشفيفة، صعدنا إلى تلال خضراء صوب الغابة لنرتقي تلة صغيرة عندها مثُلت الغابة أمامنا أشجار العرعر والطلح، كان معلم الرياضة يحدد الاتجاه بعد مشاورة المدير لنغذ السير بين الأشجار الكثيفة ليستقر الرأي في مزرعة مهجورة.
كانت دهشتي كبيرة حين اقتنص أحد المعلمين الحدأة التي كانت تتماهى في الفضاء القريب وصولا إلى قطعة لحم، ما أن اقتربت حتى صوب بندقيته ليرديها صريعة.
لسكان القرية طقوسهم ويمكن مشاهدة ذلك في ملامح وجوههم وهذا الذي تبيّن لي ذات يوم فقد ملأ الحزن وجه أمي لسماعها خبر وفاة خالها، لحقت بأمي حين اتجهت إلى منزل خالها سمعت النسوة يبكين شعرت بخوف شديد لم أدرك معنى الموت إلا أنني شاركت في البكاء، الميت ممدا على فراش أبيض ومغطى كامل جسده عدا وجهه وقتها كان ساكنا، عيناه مغلقتان، لحظات وحمله عدد من الرجال نحو مقبرة في أكناف القرية تم مواراته بالتراب ووضعوا نصبين صغيرين في مقدمة المقبرة ونهايته وزعوا قليلا من التمر على الموجودين صدقة على الميت، الذي برد جسده، عاد الجميع إلى منازلهم، أدركت لماذا أمي كانت تبكي.
مثلما يحزن الأهالي أيضاً يفرحون. بعد عام اهتمت والدتي بالبيت وأعادت تبييض جدرانه بالشيدة وتجديد البوية الزيتية الخضراء وتلميع ثلاجة صغيرة مطبوع عليها صورة لرجل لا اعرفه، فيما يبدوا أن لثلاجة الشاي وظيفتين واحدة كمنظر جميل والأخرى من أجل الاحتفاظ بالشاي ساخنا، كنت أقارن ثلاجتنا بصورة لطائر جميل معلقة في جدار جارنا، وأخرى لصورة الزير سالم وهو راكب على أسد لجمه وأراد الاستعراض به، يبدو أن القرية بكاملها خالية من الصور عدا هذه.
جاء صوت من الخارج لينهض والدي من جلسته متجها إلى الساحة المحاذية لبيتنا، مشيت خلفه شاهدت ثورين أحمرين كان البائع قد استلم نقوده وأراد أن يرضي شيئا في نفسه حيث مرر يده على ظهر الثورين بشيء من الحبور وعرفت انه يقصد أنهما سمينان، قادهما البائع ليسترخيا تحت عريش، وأخذ صبغة ووضع رقمه صغيرة في جبين أحدهما بمعنى أنه سيكون الوليمة في اليوم الأول، ساعات حتى أصبح الثور ذا الرقمة معلقا بقدمية المربوطتين في ثلاثة قوائم خشبية، ليحز الجزار السكين في جلده ويقطع اللحم إلى قطع صغيرة تكون نهايتها في جوف القدر الكبير الذي يعتلى الجمر المتوقد.
كنت أتساءل لماذا والدي يعلق الجنبية النافعي في الزافر؟ والآن أشاهده يتحفز لأخذ قطعة القماش ليمسح الصفيحة المعدنية اللامعة والحادة ويعيدها إلى مخبئها، وكأنه بفعلته يستنهض قواه للعرضة التي بدأت في التو احتزم الجنبية في وسطه واخذ شقيقي سيفا صقيلا وسارا نحو السوق الذي تقام به العرضة، ألقى الشاعر القصيد، كانت الأجسام تهتز في طرب مع إيقاع الزير.
ملأت الفرحة قلبي بانبعاث التيار الكهربائي عن طريق مصباح صغيرة ثبت في الزافر، وكان قبلها بأيَّام حدد كهربائي من أبناء القرية مسار السلك الكهربائي ليكون نصيب بيتنا ثلاثة مصابيح تم توزيعها ليستفيد كل من داخل المنزل، منعطف في حياة سكان القرية استبدال الكهرباء بديلا عن الأتريك والفانوس.
ماتور الكهرباء وضع بعناية على ربوة صغيرة ورفعت أسلاكه فوق أعمدة قطعت من أشجار الغابة لتصل إلى البيوت، ينطلق الضوء بعد صلاة المغرب مباشرة.
لم يعد هناك قلق يصاحبنا من جراء هجوم سريع من إحدى الفراشات على الفتيلة لتمزقها ونبقى في ظلمة حالكة حتى استبدالها بأخرى، والفانوس يتوارى أمام ضوء المصباح المشع والمبهر، ساعات قليلة تبقى الإضاءة بعدها يتم إطفاء الماتور لنعود إلى ضوء الفانوس، اجتاحني فرح عارم حين شرع والدي يقيس قامتي بهنداسة أفردت له جسمي ورفعت صدري في شموخ، ووقفت كأنني في ساحة معركة وما أن فرغ من وضع القياسات تارة بالهنداسة وأخرى بفرد أصابعه لثوب العيد حتى انطلقت إلى ساحة منزلنا معبرا عن فرحتي، فيما راحت والدتي تقطع القماش بمساعدة والدي لتترك رأس الإبرة تحديد مسارها مع توجيهها بمهارة، تحدث الماكينة صوتا متقطعا، في أيَّام رمضان أمارس هواياتي لعب الأمثال القطرة يالسح يالزم، لم انسَ ذلك الحجر الذي غدر بي وتحولت فروة رأسي إلى ينبوع صغير من الدم بسبب حجر قذفه أحد رفاقي قاصدا اقتناص الحجر المنصوب وانحرف عن مساره، ملأت أمي فتحة الجرح ببن مطحون، وربطت القماش وخرجت كاشفا الرأس عدا الشريط الأبيض الذي لفته أمي محتفظا بالعلاج المطحون.
العشيات نتحلق في باحة السوق بجوار الدكاكين لنرى بعض المشاهد التمثيلية التي يؤديها القادرون على إمتاع الآخرين، بعدها نجوب السوق والمساريب برقصة العرضة .. الأيَّام التي تسبق العيد نحث جهودنا لنجمع أعشابا يابسة من شجيرات ونكومها في سفح جبل القابل، وما أن نسمع صوت عيار ناري حتى نسكب كازا على العشب ونقدح عود الثقاب لتدب النيران في أحشاء المشعال على هيئة شعلة صفراء تمتد ألسنتها نحو الأعلى لتكون علامة واضحة لسكان القرى على جبال السراة، لم نكتف بهذا المشهد بل نرقص ونقصد ونغني حتى نشعر بضعف الشعلة عندها نغادر المكان، ليلة صاخبة وممتعة نقضيها، مشيت في طريق ملتو بين المساريب ليستقبلني بابنا الخشبي المدهون بالقطران الأسود. لأصعد إلى منزلنا بخطوات سريعة، طوحت برأسي على المخدة شعرت وكأنني في قارب يتمرجح على موج متمرد، أغمضت عيني شاهدت نجوما تلتمع وبرقا خاطفا يشق كبد السماء، ليبدأ قرع متواصل على طيس تستقبل قطرات الماء المتسربة من بين أخشاب سقف المنزل، اختلط الحلم مع الواقع بالفعل كان المطر ينهمر، فتحت عيني لأطمئن على ثوبي الجديد المعلق في جانب الزافر.
في الربيع تتحول المصاطب الزراعية إلى لوحة خضراء من محصول الذرة، فيما تنساب المياه في بطن وادي قوب بشكل يترقرق له القلب تتلدن المياه مع الانحدار وتتلوى بين نباتات غضة، اكتشف أحد المقيمين الفلسطينيين أن الحضوة يمكن أن تصبح على مائدة الأهالي بدلا من جيوش الحشرات التي تهيم عليها. لحظه أحد أفراد القرية وهو يقتطف بيديه المائلة للحمرة أغصانا وأوراقا غضة نمت على حواف مياه الوادي، استغرب من فعلته إِذْ انها تخص الأبقار والحمير يحملها أبو ماهر الذي يعمل تمرجيا إلى منزله، بدأ التساؤل ماذا يفعل بها ؟هل كنوع من العلاج أم ماذا ؟ بعد عمليات استخبارية عرفوا بأن عائلة التمرجي تأكل الحضوة، انتشر الخبر في القرية البعض يقول : ان من المستحيل أن يأكلها التمرجي وآخرون يتقززون حين يتخيلون أبا ماهر وهو يلتهم الحضوة مع وجبة العشاء، تبيّن فيما بعد أن ثمة أشخاصا يتسللون خفية لاقتطاف ما كتبه الله رزقا لأسرهم.
أبو ماهر لم يكن تمرجيا فقط بل كان طبيبا معالجا ما إن يشتكي أحد حتى يذهب إليه ليعطيه حفنة من الحبوب أو يحقنه برأس الإبرة بعدها يشكر الله الذي منحه الشفاء.
تعودنا مشاهدة المعلمين الذين جاءوا من فلسطين ومصر والسودان إلا أن أبا ماهر لم يكن معلما أو حتى طبيبا، يحظى هو وأسرته بود الأهالي.
جمعان الكرت - الباحة