نشر الشاعر سعود بن سليمان اليوسف في الصرح الأدبي- الجزيرة الثقافية الغرّاء، العدد (479) في 9-2-1437هـ قصيدة له عنوانها: مخطوطة للمتنبي لم تحقَّق بعد، ولي معها هذه الوقفات التحليلية بعنوان:
الرمز... انفتاح النص وانغلاقه
أرواح مستلهمة، أمام نص ثري لو بسط على الدراسات المناهج النقدية لوجد القارئ المنتج مجالًا رحبًا فسيحًا ... هكذا الشعر وإلا فلا... قراءة تولدت من قراءات نص مخطوطي ذي وهج تأريخي مستلهم من تلك الروح التنبؤية المتنبئية التأريخية، قادتنا إلى نص عاش شاعرنا أنفاسه وتقلد إحساسه المتقد كرجع صدى أستاذه أبي الطيب القائل:
مالَنا كُلُّنا جَوٍ يا رَسولُ
أَنا أَهوى وَقَلبُكَ المَتبولُ
خفتات بين حسن ابتداء وبداية انتهاء لقفلة مفتوحة رحبة..
بهذا المطلع الاستهلالي وأمام مخطوطة لم تحقق ... مشهد تأثيري تأريخي؛ تهجين وتعالق لفظي معنوي بارع جذاب، ألفاظ أسرها المعنى المنتزع الرصين فاحكم سبكها في قوالب فارهة، وأجاد نظمها في قلائد حوارية فاخرة، (فارس ورسول، وخيل مسرجة ورسالة)
جاء النص في كتلة من الحمم ذات الصور الملتهبة المعبرة: تجسيدية أم تشخيصية أم تجسيمية متناوبة «يا ضفيرةً في دمشقٍ أنت لحنٌ مِن عطرها مجدول، علّمتني الهوى دمشقُ أيا (حسناءُ)... ليلٌ غافٍ وخدٌّ أسيل، فصِلِيني بكبريائي، فإن أَنْحَنِ، وأنا فصلٌ خامسٌ، أوهى أبياتَها الترتيلُ، أنا فيهم قصيدةٌ من حروف الشمس، في يراعي أذبتُ خفقَ الضحى أنْحتُ صوتي في قامةٍ لا تميل، فصَليلٌ في داخلي وهديل، أنا رؤيا غموضُها في رُؤاهم، أغنيَّةً تَهطل ضوءاً، في داخلي طيوراً من الحرّية، غربةٌ أرهقَت حروفي، من شموخي يُهَزُّ جذعي، كما يُغدِق من عِذق كبرياءَ النخيلُ....»
هذه الصور نابعة من دقة الانتقاء لدى الذات المبدعة، وسعة خيالها وكلما كانت تلك الذات ذات حس بارع؛ تراقصت في النص أروع الألفاظ الحرفية والمعنوية النفسية.
كثيرة هي التراكيب التي تقودك إلى الوقوف أمام هذا الإبداع مشيدًا منها : «اعتيادي على الرحيل مُقامي ومُقامي - أيّان كان- رحيل، كيف تأتي في بعضهنَّ الفصول؟ أنا رؤيا غموضُها في رُؤاهم وغموضاً يزيدها التأويل، وإذا الخيلُ ما عدَتْ في سوى المضمار؛ فالكلُّ صهوةٌ وصهيل، ظامئٌ للضياء، أستاف من هالة شمسٍ هي المُحول المُحول، غربةٌ أرهقَت حروفي، مسيرٌ لمسيرٍ.. أَشَدُّ منه الوصول، أنا لي صوتيَ الذي هو صوتي وركوبي موجَ الصدى مستحيل....»
هذه التراكيب لم تقتصر على تمامها الهيكلي الرصين فحسب؛ بل زادت نغمًا موسيقيًا في تتابع لفظي والتفات لافت في البيت الواحد في توال تناغمي متسلسل؛ يستنبئ عن أفق التوقع القادم لأنفاس الذات، «على الرحيل مُقامي ومُقامي -أيّان كان - رحيل»، «أنا رؤيا غموضُها في رُؤاهم وغموضاً»، «فالكلُّ صهوةٌ وصهيل»، «هي المُحول المُحول» «لي صوتيَ الذي هو صوتي»... هذا التداعي المؤثر يوقفك على لهفة خافتة متثاقلة الحمل في الذات المبدعة، بديعية تلك اللهفة.
ليس ذلك فحسب، بل تستوقفك حكم ذات توقيعات مذهبة، منها:
إنّ أقسى من القنوط من الناس
حياةٌ يَحُوْطها التأميل
ذروةُ الظلم أن تعيش تَبوعاً
وانتظارُ الآتي، وفِكرٌ كسول
اعتيادي على الرحيل مُقامي
ومُقامي -أيّان كان - رحيل
مشهد يشدك زخم إحساس ذاته المبدعة، لا يتقن مساسه إلا متأهب للوقوف على مخطوطة لم تحقق، نص ممتلئ بالانزياحات الأسلوبية الجمالية.. تكرار أدوات الخطاب (أنا وتاء الفاعل وياء المخاطب) ياء متوهجة، وتاءات ذاتية متنفسة، تكرار حرف وتكرار لفظ متتابع وتوابع، لامية عريضة ممتدة )، (إنني، إن عندي ..لي، عندي فصِلِيني بكبريائي، اعتيادي ...مُقامي! ومقامي، أين أمضي، داخلي، يراعي، صوتي، داخلي، لانتجاعي، حرّيتي/وطني، حروفي، وطني، غربتي، صوتيَ، ركوبي، جذعي..)
كل تلك تعاضدت لولادة ذات مبدعة ملمة ملهمة ملتهبة شعوريًا، ذات إحساس متدفق بالمسؤولية.. لم تكن تلك الدلالات الذاتية بمنأى عن تلك الروح الشفيفة وإن كانت عليه مأخذا في بعض استدعاءاتها من حيث أن الإكثار منها يحمل نوعًا ما من التفرد الذاتي الخاص وتنحي المشاركة من قبل القارئ المنتج..
كان الانطلاق مترددًا في البيت الثاني المتقطع النفس بمؤكدٍ وفواصل الموصول والنداء بعد مطلع شائق ...
إن عندي من المواجع ما ... يشفعُ لي عند حُبِّه يا رسول
(أنا عندي) جوىً وسهدٌ وشوقٌ
ورحيلٌ وعبرةٌ ونحول
ثم في العودة إلى تكرار (أنا عندي) على ما في هذا البيت من عطف جمالي متتابع منتظم، عرض فيه الدوافع النفسية للذات المبدعة التي سيحملها هذا الرسول، ولكن الابتداء كان أكثر ثقلا في الانتقال إلى تلك الأحاسيس المرهفة، مما أحدث قطعا لهذا التسلسل البديع، لو كان بداية لنهاية القصيدة كان أكثر جذبا وأسلم من تكرار قد يفقد المطلع الأول الاستهلالي قيمته المتوهجة الوقادة وربما أن تركيب النداء المتكرر «يا رسول» هو ما يحتاج إعادة النظر.
ولا يعني ذلك أن مثل هذه الصيغ تفسد الذوق ولا تروق، ودونكم هذا الشاهد - على سبيل المثال-:
إنّ في داخلي طيوراً من الحرّية/
الجرحِ ما لهنّ نزول
لانتجاعي حرّيتي/وطني أينع ...
في مُجدبِ الحقولِ الذبولُ
ومن جماليات هذه المخطوطة أنها تلتقط ذائقة الأذن أماكن الانقطاع فبين «اعتيادي على الرحيل مُقامي!...ومُقامي - أيّان كان - رحيل!»
و «وأنا فصلٌ خامسٌ أين أمضي
كيف تأتي في بعضهنَّ الفصول؟»
في رأيي أن (وأنا) وما بعدها من تنوين (فصلٌ خامسٌ) لا تتناسب مع الانكسار الذي يفيء ظلاله على تلك الذات الآسية ولو اختار ما يستوجب تنوين الكسر لأرق وأجذب وأنسب - على سبيل المثال- (بين فصلٍ خامسٍ...) أو غير ذلك مما يتناسب مع وزن القصيدة الشعري.
ومما يؤخذ على الشاعر ما جاء في البيت:
هكذا كنتُ وردةً واتّقاداً
فصَليلٌ في داخلي وهديل
تجافي الصلة بين الوردة والاتقاد، ثم إن الصليل يلائم الاتقاد بينما لا ارتباط بين الوردة والهديل، فكان أحرى أن يختار قافية تليق بالورد أو يستبدل الورد بما يتلاءم مع الهديل، ولربما أن هذا التجافي تعمده الشاعر لو قصد أن يقول: أنه سيفٌ في الحرب، وحمامة في السلم!
معجم الشاعر هيمنت فيه ثيمة الحزن والشوق والهوى والنوى بنسج تأريخي: «متبول.. من المواجع.. جوىً وسهدٌ وشوقٌ ورحيلٌ، وعبرةٌ ونحول الفراق، رحيل، أقسى من القنوط، أوهى، غموضُها وغموضاً، موجِعٌ، المجهول، واتّقاداً، أذبتُ، خفقَ الجرحِ، مُجدبِ الحقولِ، الذبولُ، غربةٌ أرهقَت غربتي، مُنهَكاً»
كل تلك الألفاظ تبرز مخزوناً مستوحى من ذاته المتعاضدة لإخراج تلك الزفرات وتشكل جسرًا يصل الذات بالقصيدة، فالناقد الحصيف، ثم القارئ المنتج.
وفي انتقاء اللام قافية سرٌّ يكشف عن صفاتها إذ هي تجمع بين الرهافة فيما تتصف به من رخاوة وبين اتقاد وحسن توظيف وشدة نزع للمعنى فيما هو من صفاتها ثم إحكام في الامتلاء؛ فجاءت قافية اللام أدناها لمنتهاها تشبعًا واغتناءً، مما يشد ذهنك ويوقد قراءتك حسن التنقل بين البنى مع وعورة التنبؤ بتلك البنى الصغرى للقصيدة، فمثل هذا الحرف الوهج بحروفه العاطفة تحتاج الأذن إلى ترجمة صوتية تتلوها الذات المبدعة حينها يتفجر لدى القارئ ولادة جديدة لمعان شديدة غائرة في لب الذات لا ينتزعها إلا الأشداء بالرغم من أن معجم الذات يدور في قوالب لفظية قريبة. ساهم في جمال رد الأعجاز على الصدور بلا غموض ولا بعد يفسد الذوق؛ كل ذلك يشعرك بقامة شعورية تملكها الذات المبدعة.
وللنهاية عند الذات خصوصية..
من شموخي يُهَزُّ جذعي، كما يُغـ
ـدِق من عِذق كبرياءَ النخيلُ
مما يجذب الانتباه أن القفلة الأخيرة للقصيدة تصلح بداية متقدة لمعان متجددة بل لتتابع جمال لا يتوقف وهذه ميزة حداثية بارعة بعيدة عن الرتابة الروتينية الباهتة المملة فالقارئ أمام جمالين: مفتاح ابتداء وإحكام انتهاء.
وبعد.. مع أن رقعة هذه المخطوطة واضحة الألفاظ لا تشدق ولا تقعر إلا أنها متلفعة بهيبة الغموض في فكرتها وخصوصيتها، تستلزم سبر أغوار هذا النص المتين، فتلك ميزة تتجاوز فكرة النظم والنغم الموسيقي, إلى لوحة بديعية مليئة بجماليات الصور المحسوسة والمشاهدة, من خلال الإيهام, الذي يفتح منافذ الجمال التصويري, لا سيما إن كان هذا الجمال مستمد من «الرمزية» بخصوصيتها الفذة, التي تدفع العاطفة للاستنباط والبحث في دلالات الألفاظ عبر غايات ومقاصد نفسية ذات أبعاد مترامية الأطراف ربما أخفق أو أصاب أو أفاق بلا اتفاق.
فمن منطلق الاستهلال الخطابي إلى التساؤل ثم القفلة يبدأ الانطلاق في الإعمال والتهيؤ لحشد العواطف وإعمال الذهن لنبش المكتنز من الدلالات في طي الألفاظ...
والله من وراء القصد...
* ماجستير البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي - متخصصة في النقد
سارة بنت سليمان الدريهم - الرياض