حاوره - سعد بن عايض العتيبي:
قلم سيَّال لا يعرف الهدوء ولا السكينة، وذاكرة جيدة تغنيه عن كتابة اليوميات كما يفعل بعض الأدباء والرحالة. وحين يستدعي الذكريات فإنها تنثال على ذهنه كأنها حدثت بالأمس القريب؛ فيتذكر أغلب الأحداث والوقائع التي مرت به منذ مرحلة الطفولة مرورا ببقية مراحل العمر؛ لذلك سارع بإصدار سيرته الذاتية الماتعة التي سماها «همس الذكريات».
ارتبط ضيفنا في هذا الحوار الدكتور يعقوب بن يوسف الغنيم بعلاقات واسعة مع بعض الأدباء والشعراء أثناء دراسته الجامعية في مصر، ومن هؤلاء شيخه وأستاذه العلامة محمود محمد شاكر رحمه الله، الذي استفاد كثيرا من علمه ومن خبرته الطويلة في مجال تحقيق كتب التراث.
تقلَّد الدكتور يعقوب العديد من المناصب وهو في شبابه؛ لعل أبرزها حقيبة وزارة التربية والتعليم. حقّق وعلّق وألف مجموعة كبيرة من الكتب في: الأدب، والتاريخ، والتراث الشعبي. وحينما كان يدرس المرحلة الجامعية في القاهرة أصدر كتابه الأول «كاظمة في الأدب والتاريخ»، ونال هذا الكتاب الكثير من عبارات الشكر والتقدير. وبمناسبة صدور كتابه القيّم «الأزمنة والأمكنة» - في عشرة أجزاء ضخام - انتهزنا هذه الفرصة لإجراء هذا الحوار معه، فاستجاب مشكورا بالرد على الأسئلة التي وجهت إليه دون تأخير.
* في البدء يود القارئ أن يتعرف على أبرز المحطات في حياتكم، وعن قاهرة 1957 التي عرفتها عندما ابتعثت لإكمال مسيرتك التعليمية. وكيف كانت الصلة بين الطالب والأستاذ في تلك الحقبة؟
- كان رحيلي من الكويت إلى القاهرة في سنة 1957 بمثابة انتقال كبير في حياتي. فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي أغادر فيها بلادي إلى أي موضع خارجها.
وكان كل ما رأيته في القاهرة مختلفا، فهذا بلد كبير بالنسبة للكويت في المباني العالية، والطرق الواسعة، والأعداد الكثيرة من البشر. تحيط به الحدائق، وتملأ أسواقه بشتى السلع تأتيه من كل مكان. إضافة إلى ما فيه من وسائل الترفيه، ومجالات الثقافة المختلفة.
وفيما يتعلق بعلاقة الاستاذ بالطالب في ذلك الوقت فإنَّ كافة الأساتذة الذين عرفتهم أو تلقيت عنهم العلم في ذلك الوقت كانوا على كفاءة عالية، وكانت نظرتهم إلى طلابهم نظرة الأب إلى ابنه من حيث الحرص على إمداده بكل ما يحتاج إليه من معلومات، ومن حيث التواضع وتيسير السبل أمام كل طالب علم، وذلك بالإرشاد المستمر، والتعويد على أصول البحث العلمي.
وفي مقابل ذلك فإنَّ الطالب - آنذاك - كان يكن لكل هؤلاء العمالقة محبة وتقديرا، وكان يعجب بما كانوا عليه من معارف جمة تزيده معرفة وإتقانا للدرس. وبذلك يعدهم المثل الأعلى له في حياته.
لقد كان ذلك الزمن هو زمن طه حسين، والعقاد، ومحمود محمد شاكر، وعبد السلام هارون، وعمر الدسوقي، وضياء الدين الريس، وأمين الخولي وغيرهم من العلماء الأفاضل. فكيف لا يكون الجو العلمي مزدهرا وفيه مثل هؤلاء؟
* صادف وصولك إلى القاهرة في العام نفسه انعقاد المؤتمر الثالث للأدباء العرب، فهل التقيت الاستاذ ميخائيل نعيمة - الذي كان يزور مصر لأول مرة - والعقاد، وطه حسين، ونجيب محفوظ؟
- كان وصولي إلى القاهرة في النصف الثاني من سنة 1957، وشغلت إلى نهاية هذه السنة في إعداد نفسي للدراسة، وتكييف أمري السكني والمعيشي؛ لذا لم يكن لي نصيب في حضور المشار إليه في السؤال، ولم أحظ بلقاء الاستاذ ميخائيل نعيمة. ولكني حضرت جلسة من جلسات الاستاذ العقاد التي يقيمها كل جمعة، واستمتعت بتلك الجلسة كثيرا، ولكني لم أكررها؛ لبعد المسافة ولعدم مناسبة الوقت.
وحضرت محاضرة ألقاها الدكتور طه حسين، وسمعته وهو يلقيها بصوته العميق فينقل السامع إلى منابع الفكر التي استطاع أن يستولي عليها. ولم أتمكن من لقاء الروائي نجيب محفوظ، ولكن كثيرين غيرهم لهم دورهم في الحياة الثقافية كالأستاذ محمود شاكر، والشيخ أحمد شاكر، والدكتور محمد غنيمي هلال وغيرهم.
* سبق أن أصدرت كتابا بعنوان» ملامح من تاريخ الكويت» فكيف تنظر إلى تلك الكتب التي ألفت عن تاريخ الكويت قبل استقلالها، وهل توخت إبراز الحقائق بكل صدق وأمانة وهي تصفها بـ «سويسرا الشرق»، و» المدينة الفاضلة»؟
- أنا أنظر بازدراء إلى أمثال الكتب التي أشرت إليها في سؤالك، فهذه الذي تقول: الكويت «سويسرا الشرق»، و»المدينة الفاضلة» كتب لم يقصد مؤلفوها إلا النفاق والكسب السريع، وهم لم يقدموا أي بحث محترم، ولكنهم يجمعون قصاصات من الصحف ويطبعونها على هيئة كتب.
ولقد كان هؤلاء يلقون صدى في البداية، ولكن بضاعتهم ردت إليهم فيما بعد. ولقد رددت على جميع تلك الكتب في عدة مقالات لي نشرتها تحت عنوان «الأزمنة والأمكنة» الذي ينشر لي في جريدة «الوطن» كل أربعاء.
وردا على سؤالك فإنَّ هؤلاء المشار إليهم لم يسيئوا إلى الكويت بما قدموا من كتب، ولكنهم أساؤوا إلى أنفسهم، وكشفوا إمكاناتهم الرديئة والضعيفة؛ لأن الكويت لا يهمها أن يقولوا عنها هؤلاء أي شيء؛ ولأن قولهم هذا ليس قدحا، ولكنه وصف مبالغ فيه، فكيف يسيء إليها؟!
وعلى العموم فتلك فترة قد انقضت، ولم يعد أحد إلى تقديم مثل تلك الكتب الصفراء. وقد جاءت بعدهم مجموعات من المؤلفين من كويتيين وغيرهم قدمت الكثير الصادق عن الكويت، ويكفي النظر إلى إنتاج أساتذة جامعة الكويت، ومركز البحوث والدراسات الكويتية لكي تتضح الصورة. وما كتابي «ملامح من تاريخ الكويت» إلا قطرة من ذلك النهر الذي سال بكتب تاريخ الكويت المنتجة منذ سنة 1958. وزاد تدفقه بعد سنة 1961إلى اليوم.
* طال الجدل حول شاعرية الاستاذ محمود شوقي الأيوبي بين مادح وقادح، فهناك من يعيب عليه قول الشعر في مناسبة وغير مناسبة، ما رأيك الشخصي في شعر الاستاذ الأيوبي؟ وهل اطلعت على ديوانه «الملاحم العربية» من تحقيق د. محمد بن عبد الرحمن الربيّع، وطبعته دارة الملك عبد العزيز؟
- الشاعر محمود شوقي الأيوبي من شعراء الكويت البارزين، وهو من ذوي النشاط الثقافي والتربوي. وقد أسعدني الحظ أن تلقيت عنه بعض الدروس في بداية حياتي. فكان دمث الأخلاق، محبا لمهنته التربوية. وكان محبا للشعر الذي أعطاه كل ما يملك من جهد ووقت؛ حتى لقد أنتج عددا من الدواوين.
شعر الأيوبي شعر جيد، وأسلوبه في غاية السلاسة، وهو كما قلت في سؤالك: يكتب في موضوعات متعددة وكثيرة، وهذا لا يعيبه؛ لأنه إذا كتب قصيدة، فإننا ينبغي أن ندرك أنه لم يكتبها إلا لإحساسه بموضوعها؛ ولذلك فهو حريص على نشر شعره أكان ذلك بطبعه في دواوينه أو في إلقائه عند المناسبات. وقد سمعته يوما يلقي إحدى قصائده في مسجد من مساجد الكويت بعد صلاة الجمعة. ورجل له إحساس كبير بقيمة ما يكتبه من شعر لا بد وأن يكون على المستوى اللائق بصفته شاعرا.
أما ما يتعلق بديوانه «الملاحم العربية» الذي أصدرته له دارة الملك عبد العزيز بالرياض فيؤسفني أن أقول: إنني لم أطلع عليه، ولم أعرف بصدوره إلا من سؤالك عنه.
* ما الحافز الذي دفعك إلى إصدار كتابك «تاريخ الشارع الجديد» الذي كان افتتاحه حدثا كبيرا آنذاك؟ وما أبرز العقبات التي تعترض الباحث خلال جمعه لمعلومات عن موضوع كهذا تعوزه المراجع؟
- الحافز الذي دفعني إلى إصدار كتابي «من تاريخ شارع كويتي» هو حرصي على تدوين كافة الجوانب المتعلقة بالكويت من حيث المواقع، والأزمنة. وقد رددت في أكثر من مناسبة أن تاريخ الكويت لم يكتب كاملا حتى الآن، وأن الحصول على جميع ما نحتاج إليه من معلومات لن يكون في استطاعتنا بعد مضي المدة، ووفاة الناس الذين عاشوا الأزمان الأولى لحياة الكويت، فيذكرون الأحداث التي عاشوا، ويعرفون ما بلغهم ذكره عن أولئك الذين عاشوا في زمنهم ممن هم أكبر منهم سنا. ولذا فإنَّ تجميع شتات التاريخ لا يتم إلا بالكتابة عن الجزيئات تمهيدا للوصول إلى أكبر قدر من المعلومات التاريخية التي تكوّن تاريخ الكويت. وعملي الذي تشير إليه في سؤالك هو أحد هذه المحاولات، وقد وفقني الله سبحانه وتعالى إلى أن جمعت فيه معلومات لا بأس بها.
وقد يكون في ردي عن هذا السؤال ما يوضح الصورة بالنسبة للقسم الثاني منه، ولكني مع ذلك أرى أن جمع المعلومات الصحيحة ليس صعبا إذا توافرت الخبرة لدى الباحث.
* احتفلت مؤخرا المدرسة المباركية بمناسبة مرور مئة عام على إنشائها. بحكم أنك من رجالات التربية والتعليم، هلا حدثنا عن هذا المشروع الوطني الكبير، الذي تمثل في إنشاء أول مدرسة نظامية في الكويت؟
- اهتمت الكويت مؤخرا بالاحتفال بمناسبة مضي قرن كامل على بدء التعليم النظامي في الكويت، واستذكر الناس في تلك الأيَّام الماضية التي كان التعليم فيها لا يتم إلا عن طريق الكتاتيب، ولا يقدم إلا معلومات ضئيلة أفضلها كان تلاوة القرآن الكريم، ومع تقدم البلاد وجد الأهالي أنه قد آن الأوان لعمل شيء جديد في مجال التعليم، وهذا الشيء هو أن يَتمَّ إنشاء مدرسة تقدم الجديد في مجالات العلوم المختلفة، على أن يقوم بذلك مدرسون لهم اختصاصهم، وقدرتهم على تعليم النشء وفق الطرق الحديثة آنذاك.
اجتمع عدد من رجال الكويت، وتداولوا فيما بينهم الرأي في هذه المسألة، ثم قر قرارهم على أنه لا تقدم إلا بإنشاء مدرسة نظامية في الكويت وجمعوا من المال ما يكفي للبدء في إنشاء المدرسة المباركية، وهي أول مدرسة نظامية من نوعها يتم إنشاؤها في الكويت. وقد تلتها عدة مدارس من نوعها منها: المدرسة الأحمدية، وأنشئت في سنة 1937 أول مدرسة مشابهة للبنات. أما في سنة 1936 فقد أنشئ مجلس المعارف، ودائرة المعارف التي أخذت على عاتقها أمر التعليم في البلاد. وأنشأت عددا كبيرا من المدارس للبنين والبنات.
وقد شهدت الكويت بعد ذلك نهضة في مجال التربية والتعليم، وانطلقت أفواج أبناء الكويت إلى مدى الدراسات العليا، وصار في البلاد عدد من المتخصصين في كل شأن من شؤون الحياة. وكل ذلك إنما تم بسبب اهتمام الأهالي الذين هبوا إلى إنشاء أول مدرسة نظامية في الكويت.